17 سبتمبر 2025
تسجيلصانع الرؤساء أُسقط من عَلٍ أو أطيح به أو أقيل أو أحيل على التقاعد، أيًّا تكن الأفعال والأوصاف والتسميات، فلن يغير ذلك من حقيقة أن الفريق محمد مدين الذي يهمس كل الجزائريين عند ذكر اسم شهرته "توفيق" أصبح من ذكريات الماضي وصفحة ملونة في تاريخ الجزائر الحديث بعد 25 عاما من تربعه على رأس دائرة الاستعلام والأمن، هذه الدائرة المثيرة للجدل رغم كونها إحدى دوائر وزارة الدفاع، إلا أنها أصبحت منذ بداية تسعينيات القرن الماضي ممسكة بكل السلطات ومهيمنة على الدولة. بل بالغ البعض في اتهامها بمنح عدد من الجنرالات صكوك احتكار استيراد سلع أساسية كالسكر والقمح.عين الجنرال "توفيق" على رأس جهاز الاستخبارات في 1990 وهو العام الذي شهد إرهاصات العشرية البيضاء والحمراء والسوداء في آن معا، إذ دخلت البلاد عهد التعددية السياسية والإعلامية وإجراء أول انتخابات تشريعية حرة ونزيهة أفضت إلى فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لكن ذلك لم يوافق هوى قوى عسكرية وسياسية في الداخل أيدها تصاعد المخاوف الأمريكية والأوروبية من تصدر تيارات الإسلام السياسي للمشهد، فتم وقف المسار الانتخابي عام 1992، وهنا بدأت قصة مأساوية مرعبة كنت أحد شهودها عاشت فيها الجزائر أخطر أزمة أمنية منذ الاستقلال أدت لمقتل أكثر من مائتي ألف جزائري واختلط فيها الحابل بالنابل إلى درجة أن لا أحد يستطيع الإجابة عن سؤال: من قتل من؟ الأمر الذي جعل الجنرال "توفيق" يقود أكبر معركة استخبارية لاختراق الجماعات المسلحة التي كانت تزرع الرعب في كل مكان، وفي المقابل شهدت فترته إطلاق مفاوضات مع الجيش الإسلامي للإنقاذ بقيادة مدني مزراق أدت لاستسلام مسلحيه في العام 2000 والإعلان في أغسطس الماضي عن تشكيل حزب إسلامي جديد باسم الجبهة الجزائرية للمصالحة والإنقاذ وما أحدثه هذا الإعلان من ردود فعل رافضة من قبل قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة التي ينتمي إليها مزراق نفسه، بل وصف بعضهم الحزب الجديد بأنه من مواليد الجنرال اللغز الذي نجح في تفريخ وتفخيخ الأحزاب الإسلامية والوطنية والعلمانية وحتى البرلمان ومجلس الأمة اللذين تم التحكم في مدخلاتهما لتصبح المخرجات غير ذات أثر، كل ذلك عزز ما يسمى بنظام الثنائية القطبية في السلطة الحاكمة. هذا الواقع وضع حول الرجل هالة كبيرة، إلى درجة أن لا أحد من السياسيين يجرؤ على ذكر اسمه وإنما يكتفي الشجاع منهم بالإشارة وهو يلتفت يمينا وشمالا إلى مدخن السيجار، هذه الهيبة تحولت مع مرور السنين العجاف إلى خوف كسره الرئيس بوتفليقة حسب ما أورده كتاب "الجزائر باريس.. علاقة حميمية" لمؤلفيه كريستوف دوبوا وماري كريستين عندما ذكرا أن بوتفليقة من أكثر السياسيين والرؤساء جهرا بتطلعاته، حيث قال في 1999: "لا أريد أن أكون ثلاثة أرباع رئيس".ولما اعتلى سدة الحكم جاهر في أحد خطاباته بالهجوم على الجنرالات، لأن قصته معهم لم تكن "حميمية"، لكن صراع الظل ازداد حدة منذ قرر بوتفليقة تعديل الدستور سنة 2008 لكي يترشح لولاية ثالثة، واستمر إلى غاية الولاية الرابعة عندما بدأ منذ سنتين حركة تغييرات في جهاز المخابرات والجيش توَّجَها بطي صفحة الرجل الشبح، لكن خليفته عثمان طرطاق آت من المدرسة نفسها ويشكل معه ثنائيا شهدا سنوات الجمر والرصاص ويوصف آنذاك بالسفاح.ويقال إن اللواء محمد بوزيت المعروف باسم "يوسف" ويحمل شهادة الدكتوراه كان أبرز المرشحين لخلافة "توفيق"، لكنه استبدل في اللحظات الأخيرة. الدور البارز لجهاز المخابرات في كل مفاصل الدولة الجزائرية يرجع إلى سنوات الاستقلال وهذا يعني أن هذا الجهاز أكثر تعقيدا وقوة من أن يضعف بمجرد رحيل بعض قياداته وسيظل دعامة بقاء النظام الجزائري رغم الحملات المباشرة التي تقوم بها مؤسسة الرئاسة ومحيطها، لكن تصريحات الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني الذي ينتمي إليه بوتفليقة ربما تكون آتت أكلها عندما قال عمار سعداني: "إذا كانت دائرة الاستعلام والأمن، أي المخابرات، هي من تصنع كل شيء حاليا، فلن تستطيع أن تفعل كل شيء في المستقبل في إطار الدولة المدنية"، وهذا يعني أن توجه الرئيس بوتفليقة أصبح حقيقيا لتركيز دور المخابرات العسكرية في حماية الأمن القومي للجزائر من الهجمات الإرهابية وتحصين حدودها، وربما لإفساح المجال لتهيئة الظروف وتسوية الملعب أمام قادم جديد إلى قصر المرادية قد يكون من عائلة بوتفليقة أو من المؤمنين بخطه السياسي، وبغض عن نوايا مؤسسة الرئاسة من هذا التغيير، إلا أن التاريخ سيسجل للرئيس عبد العزيز بوتفليقة أنه غَيَّرَ المعادلة من جهاز مخابرات له دولة، إلى دولة لها جهاز مخابرات.