12 سبتمبر 2025
تسجيلأتوكأ على عصا من جمر, لا, لأهش بها غنمي, فليس لدي غنم أو أنعام, ولكن لدي أمة تحتاج إلى من يدفع عنها مكامن الوجع المحدقة بها, وتنخر فيها أشبه بالسوس القديم الذي اتخذ- رغم غيابه- أشكالا مغايرة أكثر قدرة على النفاذ إلى الأجساد والأرواح, فباتت الأمة منخرطة في ثباتها الغميق, سادرة في غيها وتهافتها على الذوبان والاستغراق في معضلاتها التي لاتنتهي, في حاجة إذن -هي وأنا- إلى عصا من جمر مشتعلة متوهجة متقدة لتمتلك القدرة على الإيقاظ, على بث العزيمة التي تهاوت, على كتابة مسار جديد, تمضي باتجاهه لتغير واقعا,بلغنا فيه مرحلة انسداد الأفق وإن لم نصل إلى مرحلة القنوط. عصا من جمر, تعني ضمن ما تعني أن تحرق مدارات دخلتها الأمة في العقود الأخيرة, فأدخلتها حالة من الركود وسفك الدماء, وإباحة ما كان محظورا بين المنتمين إليها, من تخريب الديار وتدمير الأوطان وإهلاك الأنفس, وفي قول آخر ممارسة الذبح بأسوأ الأساليب وأردأها وأبشعها, على مدى التاريخ الإنساني فتشوهت ملامحنا وساءت صورتنا الحضارية, فنحن قتلة ودمويون ونتهالك في قتل بعضبنا البعض, بينما عدونا الحقيقي رابض على الحدود متمدد في الأراضي منتهك للحقوق, واللافت أن من بيينا من يتعاون ويتشارك معه, ويحيطه علما بما يجري فيما بيننا, وهو واقف يتأمل ويشاهد ويمارس السخرية من أعداء توحدوا على أن السلام معه خيارهم الإستراتيجي الوحيد, في حين أقسموا على أن يمارسوا فيما بينهم فعل الإبادة بكفاءة عالية. عصا من جمر, تبدو عصية على الخضوع لنا, لأننا نفتقد الإرادة والرغبة على تطويعها, بينما هي بين أيدينا, يسيرة سهلة ومهيأة, وتشبه قبضة الماء سرعان ما تغادر أكفنا عند الإمساك بها غير أنه لو قبضنا عليها بقوة وفعالية لظلت بها حتي نقذف بها, عصا الجمر نائية عنا بعيدة, توقفت حركتنا عن السفر إليها للإمساك بها, ولو نجحنا لوهلة, ترحل عنا في سرعة الضوء, فنظل نبحث عنها نلاحقها, فتنأى أكثر تتباعد نبصرها بأعيننا نكاد نقترب منها, غير أنه سرعان ما ندرك أن الأمر محض سراب بقيعة. أمتنا في زماننا, قبض ريح, كف ماء غير قابلة للإمساك بها, مهد مصنوع من خيوط عنكبوت, خيمة دونما وتد, منزل بلاقواعد, أحاطت بنا صنوف العذابات والمكابدات والكوارث والمآسي والجراحات, تصيبني الحيرة, وأتساءل بمرارة هل من يمسكون بمفاصل أوطانها وشعوبها لايقرأون دفتر أحوالها؟ وإن قرأوا – لو أتيح لهم ذلك – لايستوعبون ما بين السطور أو من السطوار ذاتها, وهو في يقيني واضح وسافر للعيان, وليس في حاجة إلى استفاضة في الشرح والتفاصيل, وحتى هذه اللحظة - رغم أني دخلت رحم الستين قبل شهر ونصف تقريبا- لم أعثر على إجابة عن سؤال ما الذي جرى ويجري للأمة؟ عدت إلى التاريخ, أذهلتني حقائقه التي يحاول البعض تبييضها لصالح مواقفه وأفكاره, فوجئت بأن الصراع على السلطة كان المعادلة السائدة في معظم فتراته, وللأسف باسم المقدس الديني ارتكبت الكثير من الحماقات والممارسات التي تتنافي معه في التعامل مع الآخر, المختلف معه سياسيا والذي يدور معه الصراع على السلطة, وللأسف بلغ الأمر ذروته بالولوج في موجات التكفير وهي موجات بدأت مبكرة في عصور الخلفاء الراشدين, ولاأكاد أصدق أن نفرا ممن ينتمون إلى الإسلام ويؤمنون بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا, يكفرون سيدنا علي الخليفة الرابع رضي الله عنه وكرم وجهه, فلقد أخرجوه, وهم الخوارج من الدين والملة والحكم بما أنزل الله, وأظن أن هذه الجماعة بالذات هي التي وضعت, بما أسسته من تطرف في النظرة إلى أحكام الشريعة وتضييق مفرط في تفسير آيات القرآن الكريم وتأويلها يما يلبي رؤاهم الضيقة, البداية الخاطئة لكل جماعات التشدد في الإسلام والتي تبرز حاليا في آخر تجلياتها فيما يسمى بــ "داعش", وقد لفت انتباهي حديث للنبي محمد صلى الله عليه وسلم قاله مبكرا في صيغة تحذرية لصحابته وتابعيهم ولأمته فيما بعد يحدد فيه ملامح سلوكهم الخارج عن جوهر الإسلام يقول فيه:"يأتي في آخر الزمان قوم, حدثاء الأسنان, سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية, يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأثان, غزيرو اللحية, مقصرو الثياب ومحلقوالرؤوس, يحسنون القيل, ويسيئون الفعل, يدعون إلى كتاب الله, وليسوا منه في شيء, يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم, يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية, فأينما لقيتموهم فاقتلوهم, فإن قتلهم أجر لم قتلهم يوم القيامة". إن ما يصنعه داعش بالأمة تجاوز كل حد, وبات من الضرورة بمكان التصدي له, بعد أن خرب عقول الشباب وسفه أحلام العباد وأهلك البلاد تحت زعم أنه قادم لإقامة دولة الخلافة, فأي خلافة يمكن بناؤها واستمرارها على جماجم البشر باستخدام السكاكين والسيوف, فضلا عن أحدث الأسلحة التي يصنعها من يعتبرونهم أعداء وخصما, وعلى الرغم من أنني لا أميل إلى اعتبار داعش وأخواته من تنظيمات الإرهاب المنتشرة في الأرض, صناعة غربية صرفة, بمعنى أن الغرب قام بتشكيلها وتصعيدها وتقويتها ودفعها للسيطرة واحتلال المدن والأراضى, ولكني أكاد أصدق أنها ضالعة بشكل أو بآخر في منظومة, وفر لها الغرب وبالذات أجهزة الاستخبارات الأمريكية, كل البيئات الحاضنة لانطلاقها حتي تدخل المنطقة في أتون الحروب الأهلية والتمزيق الطائفي والمذهبي وهو ما تعيشه الأمة التي استجابت في سذاجة مفرطة للسقوط في فخ أهداف داعش ومن وفر القدرة له على الانتشار والتمدد, ولاحظ معي أن ما يسمى بالتحالف الدولي لمحاربة داعش والذي يضم أكثر من أربعين دولة بقيادة الولايات المتحدة, لم يتمكن بعد مضي ما يزيد عن العام من تشكله من الحسم المعركة مع داعش, بل إنه في ظل هذا التحالف سيطر على أكثر من نصف من مساحة سوريا وأكثر من ثلث مساحة العراق وكلما يتم طرد وإبعاد عناصره من مدينة أو أخرى يسارع بالعودة إليها أو الاستحواذ على مدن ومناطق أخرى. عصا من جمر هي خيارنا الإستراتيجى, لإعادة العافية للأمة ولإجبارها على إجهاض أهداف داعش وغيره من تنظيمات الإرهاب, ومن يقف خلفها سواء في الغرب أو في الشرق أي في أي مكان, والأمة على الرغم من كل ما اعتراها من عوامل تفكك وضعف وهشاشة, فإنها قادرة على النهوض واليقظة والعودة إلى الصواب وثمة خطوات مطلوبة لتحقيق ذلك على المدى المنظور, وهي تتعلق فقط بتوافر الإرادة على قلب المعادلة السائدة في المرحلة الراهنة, ودخلت معها الأمة النفق المعتم غير أن الأهم ما هو مطلوب على المدى البعيد, والذي يتطلب تغييرا شاملا في كل ما هو قائم حاليا سواء على صعيد البناء السياسي أو العسكري أو الدفاعي أو الأمني أو التعليمي أو الاقتصادي أو الفكري, وكل ذلك متاح عبر متوالية من الدراسات أعدتها مراكز البحوث سواء التابعة للحكومات, أو التابعة للمؤسسات العلمية والأكاديمية في مختلف أقطار الأمة, المهم السعي الجاد والحقيقي والحثيث, إلى وضعها على سكة التطبيق والتفعيل والتنفيذ وهو ما ينقصنا.