14 سبتمبر 2025

تسجيل

الكاتب الذي لا تحتمل خفته!

17 يوليو 2023

.. ورحل الكائن الذي لا تحتمل خفته. المواطن العالمي الذي كانت حياته، في الواقع وفي الكتابة أيضا اختبارا ناجحا لتحدي ثنائية الجنسية والوطن. رحل قبل أيام ميلان كونديرا، الكاتب التشيكي الفرنسي الشهير بانشغالاته الفلسفية والوجودية، في الثالث عشر من يوليو الجاري عن عمر يناهز الرابعة والتسعين عامًا تاركا وراءه إرثا من الأفكار الحية، والتي لا يمكن أن تموت ما بقي الإنسان منشغلا بهويته وكينونته على هذه الأرض. بدأت مسيرة كونديرا الأدبية في الخمسينيات من القرن الماضي بالشعر وبعد ذلك بالمسرح. ولكن المفارقة أن الرواية هي التي جعلت منه الكاتب ذائع الصيت العالم كله. ومن أبرزها: «المزحة» و»كتاب الضحك والنسيان» و»خفة الكائن الذي لا تحتمل» و»الهوية»، و»الحياة في مكان آخر»، وغيرها من العناوين التي تشي بالمعنى الذي بقي يلاحقه الكاتب عبر الكلمات منذ أن وعى قوتها وسحرها على البشر. تميز أسلوب كونديرا في الكتابة بعمقه الفكري وأبعاده الفلسفية التي كان يعبر عنها بسهولة امتنعت على كثير من أصحاب الرؤى الفلسفية العميقة. وغالبًا ما استكشفت رواياته طبيعة الوجود البشري، وتعقيد العلاقات الإنسانية، وتأثير الاضطرابات السياسية والاجتماعية على الأفراد. لقد كان بارعًا في الشكل الأدبي الذي اختاره ليكون وعاءه الفكري، حيث استخدم مجموعة من التقنيات لنقل أفكاره عبر الرواية، بما في ذلك تعدد الرواة، في مزيج من الحقيقة والخيال. وربما يتفق معظم قراء كونديرا على أن رواية «الكائن الذي لا تحمل خفته» هي أكثر أعمال كونديرا شهرة، وهي الرواية التي قادتني وكثيرين مثلي إلى استكشاف موضوعات شائكة تراوحت ما بين الحب والجسد والسياسة ومعنى الحياة على خلفية قراءته الدقيقة لأحداث ربيع براغ في العام 1968، وهي الرواية التي كما يبدو قذفت به إلى غربته الطويلة بعيدا عن وطن لا يسامح! فقد طرد يومها من الحزب الشيوعي لتشيكوسلوفاكيا وكان السبب المباشر والمعلن للطرد انتقاداته للتدخل السوفياتي في بلاده، وبعدها جُرد من جنسيته وحظرت أعماله من التداول، وبعدها بسنوات أجبر على الهجرة إلى فرنسا في العام 1975، حيث عاش بقية حياته إلى أن رحل أخيرا قبل أيام بعد أن تحول إلى مواطن عالمي لم يفضل العودة إلى وطنه بعد انتهاء الشيوعية في العام 1989. بالإضافة إلى إنجازاته الأدبية، كان كونديرا موسيقيًا بارعاً ولم يفقد شغفه بالموسيقى الذي ترجمه بهيئة مقالات نشرها في أكثر من مطبوعة، حتى ليظن المتابع لما يكتبه هذا الكائن المرهف أنه لو لم يكن روائيا لكان قائدا موسيقيا يلوح بعصاته الصغيرة ما يرسم فيه لوحة للعالم المتخيل في رأسه. تُرجمت أعمال كونديرا إلى أكثر من أربعين لغة، وهو ما ساهم بتكوين تصور عام عنه باعتباره مواطنا عالميا يستلهم شخصياته من ألم الإنسان بغض النظر عن جنسه أو جنسيته أو ثقافته أو بيئته أو دينه. وعندما اضطر كونديرا للبدء من جديد ككاتب يكتب بلغة أجنبية، بعد أن هجر إلى فرنسا، لم يجد صعوبة كبيرة في التأقلم مع وضعه الجديد ولغته الجديدة، ذلك أن قضيته لم تختلف باختلاف اللغة وأفكاره لم تتبدل بتبدل المكان، بل إن المنفى سمح له باستكشاف موضوعات الغربة والهوية وتجربة العيش بين عالمين في كتاباته. ربما كان أحد أهم تأثيرات نفي كونديرا على كتاباته هو الطريقة التي سمحت له بتطوير أسلوبه الأدبي الفريد. سمحت الكتابة بالفرنسية لكونديرا بتجربة تقنيات السرد وأنماط الكتابة المختلفة التي ربما لم يتمكن من استكشافها باللغة التشيكية. كما أنه اعتمد على التقاليد الأدبية الفرنسية، حيث قام بدمج عناصر من الأدب والفلسفة الفرنسية في كتاباته. كما سمح له المنفى بالكتابة بحرية أكبر وانفتاح أوسع حول القضايا السياسية والاجتماعية، فأصبحت كتاباته سياسية بشكل أكثر صراحة، وتمكن من استكشاف تعقيدات الحياة في ظل الشيوعية بطريقة لم تكن ممكنة لو بقي في وطنه آنذاك، ولعله يريد شيئا من ذلك المعنى عندما قال؛ «إن الروايات تمنحنا فرصة للهروب الخيالي من حياة لم تكن تمنحنا أي إحساس بالرضا»!