15 سبتمبر 2025

تسجيل

انتفاضة اليونان تنذر بحرب أهلية بين الديمقراطيات

17 يوليو 2015

تنقلت خلال الأيام الماضية بين عواصم أوروبية ثلاث هي باريس وبروكسل وروما وخرجت بهذه الانطباعات الميدانية حول أزمة اليونان ولعل العرب في زحمة مصائبهم ودوامة هزاتهم ومطالب شعوبهم غفلوا عن حقيقة طارئة وصاعقة تتعلق بأقرب جيرانهم جغرافيا وأبرز شركائهم في التبادل التجاري اقتصاديا وألصقهم بماضينا تاريخيا أقصد الأمة الأوروبية التي تحد العالم العربي ويجمع بيننا البحر الأبيض المتوسط الذي كان يسمى بحر الإسلام في عصور كان للمسلمين فيها وجود حضاري على ضفتيه الجنوبية والشمالية قبل أن تنقلب الأوضاع ويتداعى الغزاة والطغاة على الأمة مثلما يتداعى الأكلة على قصعة طعام وهو ما تنبأ به خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.. هذه الأمة الأوروبية ذات الدول الديمقراطية والمسيحية والليبرالية تعيش هذه الأيام أزمة من أخطر أزماتها والتي اندلع لهيبها في أثينا عاصمة اليونان لحظة أفاق اليونانيون في شتاء 2012 على نبأ عجيب أعلنه رئيس حكومتها (أنتونيس ساماراس) وهو أن اليونان عاجزة عن تسديد ديونها وأن بنوكها مهددة بالإفلاس وأن موظفيها مهددون بالتسريح والسبب حسب اعترافه المتأخر هو أن الحكومتين اللتين سبقتا حكومته ورئيسهما السيدان (باباديموس) و(بيكرامينوس) ارتكبا تلاعبا بالحسابات الرسمية السنوية المتعلقة بالموازين المالية للدولة ونفخا في قيمة المدخرات النقدية للبنك المركزي اليوناني وكذبا حول قدرة الدولة اليونانية على مواجهة مصاريف الوظيفة العمومية وتسديد جرايات المتقاعدين والوفاء بتعهدات الدولة إزاء الدائنين أي في الواقع غطيا على فضائح إفلاس الدولة من أجل الحفاظ على ثقة الاتحاد الأوروبي وبنكه المركزي الموحد وثقة صندوق النقد الدولي والمؤسسات النقدية المقرضة لغايات انتخابية سياسوية.لكن في هذا المجال الحساس فإن القناع المزيف يسقط مع الأيام فبدأ منذ ثلاثة أعوام العد العكسي للحياة الاقتصادية اليونانية حيث أثرت الأزمة على مستوى معيشة المواطن اليوناني واستوعب أعضاء الاتحاد الأوروبي الصدمة وتفرقت دول الاتحاد شيعا بين رافض لإصلاح أخطاء حكومتين دلستا الوثائق وبين متفهم لبؤس الشعب اليوناني المسكين الذي لا ناقة له ولا جمل فيما انتهى إليه وضعه المنكود. ودشنت اليونان عهد اضطرابات اجتماعية وإضرابات عمالية وقطاعية ورفضت الأغلبية الشعبية هذا الواقع المرير العسير كما رفض المواطن العادي إجراءات التقشف وشظف العيش وشد الأحزمة لأن جميع الأحزاب والمنظمات العمالية وجمعيات المجتمع المدني ترفض تحميل الشعب كذب الحكومتين السابقتين وشهدت اليونان في كل مدنها وقطاعاتها الحيوية مظاهرات عارمة واحتجاجات عنيفة وهنا هبت مؤسسات الاتحاد الأوروبي في الظاهر لإنقاذ الاقتصاد اليوناني من الإفلاس وفي الباطن لإنقاذ أوروبا من التفكك والانهيار.وسجلنا أن قمة الزعماء الأوروبيين في بروكسل يوم الأحد الماضي تدارست نتيجة استفتاء يوم الأحد 5 يوليو الذي قال فيه 63% من الشعب اليوناني (لا) لإملاءات الدائنين الحلفاء حسبما دعاهم رئيس حكومتهم الثورية المتمردة (تسيبراس) ولم تخرج القمة بأي اتفاق حول التعاطي مع اليونان الرافض في الواقع لا للإملاءات والوصايات فقط بل الرافض لكل النظام العالمي الذي نعته (تسيبراس) بالمتوحش والجائر!وهذه ليست أول قمة أوروبية بل سبق أن اجتمع رؤساء الدول الأوروبية منذ 2013 وقرروا ضخ مبالغ مالية تدرجت من 20 مليار يورو إلى 245 مليار يورو (إلى هذه الساعة 2015) وهي أعظم عملية ضخ أموال دولية في التاريخ مع مخطط مارشال الأمريكي الذي أنقذ أوروبا سنة 1946 بعد الحرب العالمية وبطبيعة الحال فإن المانحة الأولى هي ألمانيا (بنسبة 53% من المكرمات تليها فرنسا بنسبة 16%) وهو أمر أقض مضاجع المواطنين الألمان وكذلك الفرنسيين الذين عبروا عن تذمرهم من حمل أثقل عبء في إعانة اليونان وبدأ اللغط داخل أحزاب ألمانية وفرنسية يمينية ويسارية على السواء يكشف المستور ويندد بما سماه بعض المعلقين الألمان والفرنسيين (مكافأة ألمانية فرنسية لليوناني الكسول!) وتحركت المستشارة ميركل فاستشاطت غضبا وأعلنت صراحة عدم موافقتها على مواصلة ضخ الأموال في خزينة البنوك اليونانية وهي التي دعت إلى مراجعة كل هياكل ومؤسسات وخيارات الاقتصاد اليوناني بشكل يفرض على أثينا قبول مبدأ التقشف والتخلي عن ثلث موظفي الدولة والرضا بالتفريط في أهم مؤسسات القطاع العام لفائدة الخواص والمستثمرين المحليين والأوروبيين وهذه الشروط تعهدت ميركل في حملتها الانتخابية العام الماضي بالتمسك بها وهو عقد سياسي بين حزبها وبين الشعب الألماني. وبدأ البناء الأوروبي الديمقراطي الليبرالي يتصدع ويتشقق حين اختلفت ميركل مع هولند وهو المانح الثاني بعد برلين لأن الواقع في السياسة الأوروبية هو أن برلين تليها باريس هما صاحبا القرار الحقيقيان لأنهما بكل بساطة هما اللذان يدخلان أيديهما إلى جيوبهما (في الواقع جيوب مواطنيهم دافعي الضرائب) لتسديد العجز اليوناني وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد الكارثة!المعادلة تغيرت جذريا حين طلع على سطح الحياة السياسية شاب في التاسعة والثلاثين من العمر هو (ألكسيس تسيبراس) عضو نشيط في التكتل اليساري (سيريزا) فتميز ببرنامج ثوري مقبول وبخطبه الشعبية ولغته الصادقة وشبابه المتوهج وشكله النجومي ورفضه لربطة العنق (التي ترمز للاصطفاف البورجوازي التقليدي) وهو المهندس المتزوج (زواجا عرفيا على طريقتنا الإسلامية مثل الرئيس الفرنسي هولند وقبله ميتران زوج امرأتين..لأن في فرنسا واليونان ليس لديهم مجلة أحوال شخصية تحدد نوع العلاقة بين الناس!) ورفيقة دربه هي السيدة (بازانيا) مهندسة ويسارية مثله. طلع هذا الشاب على اليونان مبشرا بأنه إذا ما أحرز ثقة الناخبين فهو سيجبر الحلفاء والدائنين على التفاوض معه وأعلن أن اليونان لن تخضع لابتزاز ألمانيا وفرنسا وأن أثينا تتعامل مع برلين وباريس تعامل الند مع الند وأن لديه أوراقا رابحة في جولات التفاوض. هذا هو المشهد اليوم: شعب يوناني بائس ورئيس حكومة أشبه بشي غيفارا ودول أوروبية خائفة من خسران عملتها واندثار اتحادها وعالم حائر أمام ما يشبه الحرب الأهلية بين الديمقراطيات.. الهشة الهزيلة العاجزة.