10 سبتمبر 2025

تسجيل

اليوم الأكثر قداسة

17 يونيو 2024

الحج كله عظيم، ولكن لموقف عرفة خصوصية تطفى على أي شعيرة أخرى من شعائر هذه الفريضة الجليلة. إنه اليوم الأهم والأكثر قداسة في شعائر الحج، ولذلك قال نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام؛ "الحج عرفة". فالوقوف بيوم عرفة على جبل عرفات تجسيد للمعنى الروحي والمعنوي للحج كله، في الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله تعالى ليغفر ما تقدم وما تأخر. أكتب هذا المقال الآن وأنا أتابع المشهد العظيم عبر الشاشة التي تنقل على الهواء مباشرة من مكة المكرمة وتحديدا من صعيد عرفة إلى العالم كله. مليونا مسلم تقريبا يتجمعون في بقعة واحدة بزمن واحد ليعلنوا أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي انطلقت قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة عام حية في القلوب وأنها مستمرة وأنها قد بلغت مغارب الأرض ومشارقها، وأن الرسالة التي جاء بها النبي وحيداً وسط بيئة حاربته منذ البداية قد بلغت، وأن تضحياته الكبيرة التي بذلها في سبيلها مقدرة من قبل ملياري مسلم يزدادون، ويعرف من أتى منهم إلى هذا المشعر العظيم في هذا اليوم العظيم قيمة الرسالة وعظمة حاملها وهي تجمعه في هذا الموقف الكبير مع ملايين الناس بلغة واحدة يرددون عبرها سحر البلاغة الإسلامية باللغة العربية؛ لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك"، ويرددها معهم كثيرون من بلدانهم الكثيرة حول العالم. تذكرت وأنا أتابع حجاج بيت الله الحرام في فضاء عرفة عبر الشاشة حجتي قبل عقد ونيف من السنين، والتي سجلت تفاصيلها كلها في واحد من كتبي بعنوان "هذا الجناح جناحي" توثيقاً لأحد أهم الأحداث في حياتي كلها. يومها كنت أريد الاحتفاظ بكل شيء تكون لي وحصلت عليه في تلك الرحلة؛ في أفكاري وأقداري وأسئلتي وأجوبتي ومشاعري ومعارفي وكلماتي ودموعي وابتساماتي وصداقاتي أيضا. لم أترك شيئاً مما عرفت في تلك الرحلة التي زلزلتني في كل مفاصلها ومحاطاتها من دون أن أقف عنده وأسجله، أعرف أن ذاكرتي يومها تلقفت كل شيء بشوق غير مسبوق، لكنني لم أكن لأثق بها وحدها فدونت لاحقاً كل شيء تقريباً منذ اليوم الأول وحتى اليوم الأخير الذي ما زلت حتى الآن أنه كان الأخير فعلاً. فعندما عدت إلى بلادي بعد أداء الفريضة لم أكن أنا التي ذهبت. كنت قد تغيرت خلال أيام عشرة تغيراً يكاد يكون جذرياً على صعيد الوجدان الديني. كنت عندما أعود إلى الكتاب بين فترة وأخرى لأبحث عن تفصيلة من تفاصيل الرحلة أجدني وقد أضفت المزيد من الأسئلة التي ذهبت بها وعدت بأكثر منها. ها هم الحجاج الآن يغادرون عرفات في انسياب مثير نحو مزدلفة، ليكملوا خط سير الشعائر التي لم تتغير في ملامحها العامة طوال قرون مرت على خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع بسمتها القرآني المهيب؛ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.. ويا له من دين ويا لها من نعمة ويا له من إسلام. مليونا حاج يتحدرون تحت ظلال الآية الكريمة التي تملأ وجدان المكان كله.. شهوداً في يقينهم الديني على عظمة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، انطلاقاً من غار مظلم ومجهول بمكة ليعم العالم كله بعد ذلك ضوءاً ساطعاً.. وما زال.