29 أكتوبر 2025

تسجيل

الأدب والمروءة في الشكوى

17 يونيو 2021

دخل رجل إلى عبدالرحمن الداخل رحمه الله، فطلب منه أمراً أمام الناس، فما كان من الأمير الشهم إلا أن قضاه له، ثم قال له يوصيه بوصية ذهبية حفظها لنا التاريخ قائلا: "وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك، كيما نستر عليك، وذلك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية". فانظر وتأمل معي إلى ذلك الجيل الذهبي يا سيدي الكريم، واعقد المقارنة التي تريد أن تعقدها ثم قم بقياس الفارق بين من قارنت ذلك الجيل به، ثم احكم انت بنفسك بكل هدوء وروية وتجرد. أمّا لو سألتني شخصياً، فأنا واثق مثلك تماماً يا عزيزي القارئ الفطن أن هذا الرجل الذي دخل على عبدالرحمن الداخل، لم يجاهر بحاجته هكذا أمام القاصي والداني لكي يلوي ذراع الأمير ويحرجه فيضطر لقضاء حاجته، ولم يفعل ذلك، والناس تعرف أميرها وتعرف أخلاقه. لكن المسكين جاهر بطلب حاجته بسبب جهله وطيشه وقلة عقله وضعف حكمته فقط لا غير، لذلك انظر معي وتأمل كيف كان القائد المحنك والمربّي الفذ "عبدالرحمن الداخل" رحمه الله يربي الناس على أن يرفعوا حاجتهم في البداية لرب العالمين سبحانه وتعالى، ويربيهم أن الله سبحانه وتعالى يملكهم جميعاً، ويربيهم أن يرفعوا حاجاتهم الخاصة في رقعة أي في كتاب، فيستر عليه الأمير ولا يشمت أعداءه فيه. وهذا هو المطلب والمراد والمقصود، وإن تعجبت يا عزيزي القارئ من مجاهرة الرجل بضيق حاله وضنك عيشه واحتماله أمور الحياة التي خلق الله الإنسان فيها في كَبَد (أي في جهد وتعب)، فسوف يقول لك قائل إن هذا حق من حقوق ذلك الرجل أن ينفس عما في نفسه ويقول ما يعتمل في صدره، وهذا صحيح ولكني بنفس الوقت أتساءل: هل من حقه أيضاً أن يُشمت به أعداءه؟، وهل من حقه أن يمنحهم مادة دسمة ليتندروا عليه ويسخروا منه؟، هل كان هذا هو هدفه وغايته؟ بالتأكيد لا. وأنا بدوري الآن أسألك عزيزي القارئ ماذا كنت ستفعل لو كنت مكان ذلك الرجل الذي ضاقت به السبل؟، فهل ستأخذ بنصيحة الأمير عبدالرحمن الداخل وتستر على نفسك وتقضي حاجتك وتقترب خطوة - ولو بسيطة - من الجيل الذهبي للمسلمين حينما سادوا الأرض؟، أم هل ستهيم في شوارع قرطبة تشكو بثك وحزنك إلى الناس بشكل لا تنجو فيه إما من شماتة شامت، أو إسعاد حاسد، أو خدمة حاقد ومتربص؟. فان كنت تريد النصح والخير للناس جميعاً فنحن معك ونشد على يدك بالنصح الصادق المنصف البناء، لأننا جميعاً نريد الخير للجميع تماماً بنفس القدر الذي لا نريد معه أن نمنح المتربصين بنا - وهم كثر- فرصة الشماتة على طبق من ذهب. وانظر أيضاً إلى أدب ذلك الرجل ومروءته عندما خاطب الأمير عبدالرحمن الداخل بحاجته الشخصية، فهو لم يزعم أبداً أنها حالة غيره من الناس، بل تكلم عن نفسه فقط، لأن تعميم الحالات الخاصة وسحبها على جميع أفراد المجتمع ليس من العدل في شيء وقد يؤخذ على غير مأخذه مما لا يخدم مروءة الرجل بالشكل الذي يريده. نحن جميعاً نعرف أن المظلمة والحق الشخصي شيء والاهتمام والانشغال بما يصلح أمور الناس شيء آخر، ولكن قل لي بربك متى كان الاهتمام بشؤون العامة يقتضي أن ينشر المرء "غسيله" على رؤوس الأشهاد؟، ومنذ متى كان النصح يأتي على هيئة شكوى؟. إن المتأمل لتفاصيل الماضي التليد لن يخلو من فائدة أو درس يفيده في حياته أكثر مما كان يريد هو لنفسه. وَلِلنَفسِ أَخلاقٌ تَدُلُّ عَلى الفَتى أَكانَ سَخاءً ما أَتى أَم تَساخِيا [email protected]