02 نوفمبر 2025
تسجيلللشعراء منزلة جليلة عند العرب من قديم الأزل، منذ أن عرفوا الشعر ونطقوا به، وسارت فيهم رواية أبياته وقصائدِه، التي كانت تَشيع بينهم، وتدور على ألسنهم، وكانوا يتناشدونها في محافلهم وأنديتهم ومجالسهم، نهاراً في أعمالهم، وليلا في أسمارهم، ومن هنا كانت للشاعر النابه الحصيف في شعره، قيمةٌ وقدر، إذ تَعُدُّه قبيلته وعشيرته لسانا مبينا يدافع ويذود عنها، في ميدان البيان، يفصح عن فضلها ومجدها، ويُذيع شرفها وفخرها، ويسجل مآثرها وأيامها، بحيث يكون الشعر ديواناًَ يحفظ المدح والفخر، ليكون خير إعلان لهم يتباهون به ويسمون على من سواهم، فتنتشر في الناس أنباء محامدهم ومكارمهم.. على تلك الحال كان للشاعر الجاهلي الطُفيل بن عمرو الدَّوْسي، فضلٌ وصيتٌ في قبيلته ومجتمعه الذي يحيا فيه، وإنه في ذات يوم نوى المجيء إلى مكة وزيارة الكعبة المقدسة، وكانت مكة إذ ذاك، قد شعّت فيها أنوار الدعوة الإسلامية، ينشر تباشيرها رسول الله، محمد عليه الصلاة والسلام، الذي شرع يصدع بما أُمر به من هُدى وخير وحكمة. لما قَدِم الطفيل مكة علمت به قريش، واهتموا بأمره، وخشوا أن يلقى محمداً ويسمع شيئا مما يدعو إليه الناس، ثم تكون العاقبة أن يسلم وهو الشاعر ذو القول الذائع، الذي إن قال شعرا في الإسلام، سرعان ما ينتشر في مجامع الأقوام، ثم يتناقلونه، فيكون في ذلك دِعاية للإسلام تساعد في إعلانه ورَوَجانه. فاجتمع إلى الطفيل نفر من قريش، جعلوا يرحبون به ويَهَشون، ويوسعون له مقام الضيافة بحفاوة بالغة، جعلته يستأنس بهم ويرتاح إليهم، وما علم أن تلك الحفاوةَ ليست خالصة لوجه المودة والكرامة والألفة، وأنها تطوي في باطنها مكرا وخداعا وكيداً يُراد به، كالتي يبديها أهل النفاق والزيف دائما في كل زمان، وما هي إلا لحاجة في نفوسهم أرادوها، يستدرجون بها غيرهم ليوقعوه في حيلتهم.. حين أحسوا باطمئنان الطفيل إليهم، طفقوا يحذرونه من رسول الله ومما يقوله، ويدعو إليه الناس، بين أظهرهم قائلين: «يا طفيل.. إن لهذا الرجل قولاً كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه والرجل وأخيه، والرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك منه، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئاً». ارتاع الطفيل من قولهم لأول وهلة، وانقبضت نفسه، وشاع الخوف والحذر فيها، وما زالوا به حتى عزم على ألا يسمع من رسول الله شيئا، ولا يلقاه مطلقاً، تحرزاً منه واتقاء، حتى إنه حين غدا إلى الكعبة المشرفة، حشا أُذنيه قُطناً، كيلا يسمع شيئا من قوله إذا تحدث، وكذلك هم أغلب الناس عند استماعهم لأقاويل الناس، يصدقون كل ما يقال، ويصبحون أسرى لما يسمعون، وربما اعتقدوا ما سمعوا وعملوا به بكل سذاجة وبلاهة، بلا تحقق ورويّة وتبصر.. حينما بلغ الطفيل الكعبة، وجد هنالك رسولَ الله قائما يصلي بخشوع، فما مَلَك الطفيل إلا القيام قريباًَ منه، كأن قوة خارجية دفعته من حيث لا يشعر، وجذبته إلى قرب الرسول، دون أن تكون له إرادة في ذلك، حينئذ أبى الله إلا أن يُسمعَ الطفيلَ بعض ما يقرأ رسوله، فسمع كلاما لا كسائر الكلام، كلاماً عجباً حَسَنا يرُوْع السامعين.. فالشاعر أبصر الناس بالكلام؛ رفيعه وخسيسه، بعدئذٍ وقف الطفيل يحدث نفسه متأسفاً، وقد بدا له خطأ ما أقدم عليه في أول أمره، قائلاً لنفسه: «واثُكْل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، لا يخفى علي الحَسَن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنٌ قبلته، وإن كان قبيحا تركته»، ثم إنه مكث حتى انصرف رسول الله إلى بيته، فتبعه حتى دخل البيت، ودخل وراءه، وسأله أن يعرض عليه الأمر، فعرض عليه النبي الإسلام، وتلا عليه بعض آي القرآن، حتى قال الطفيل: «والله ما سمعت قولاً قط، أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه»، فأسلم وشهد شهادة الحق، وقال: «يا رسول الله، إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادعُ الله أن يجعل لي آية، تكون لي عوناً عليهم، فيما أدعوهم إليه»، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم اجعل له آية».. عاد الطفيل مسرعاً إلى قومه في مضارب (دَوْس)، معتقداً أنه حامل رسالة لا بد له من تبليغها، كما وعاها، فكان أول إنسان يدعوه الطفيل إلى الإسلام هو والده، فإن للأقربين حقوقاً مقدمة، فما أن لقي أباه حتى قال له: لست مني، ولست منك. فرد عليه أبوه متعجباً قَلِقا: ولمَ يا بُني؟ قال: لقد أسلمت واتبعت رسول الله محمداً. قال والده: ديني هو دينك. وفي قوله هذا دلالةٌ على ما للطفيل الابن عندوالده من دالَّة عنده ومكانة، ودلالة أخرى على معرفته برجاحة عقله، وسلامة فكره، ولا عجب أن يعرف الوالد ولده، فلذلك صدّقه وتبعه بثقة دون إبطاء، ولا تردد، ولا ريبة. ثم ذهب الطفيل إلى زوجه وقال لها مثل قوله لأبيه: لستِ مني، ولست منك. فردت مثل رد أبيه، ولكن بارتياع شديد: ولمَ؟ وزادت: بأبي أنت وأمي. فأخبرها بما عنده، فلما علمت بإسلامه، كان منها ما كان من أبيه، فأسلمت من فورها!!ثم انطلق الطفيل إلى دعوة قومه، بنفس ما كان عليه من نشاط وعزيمة حين دعا أهله، غير أن قومه أحجموا عن الاستجابة له، ولم يُبدوا رغبة ولا قبولاً، بل صدوا عنه، وتفرقوا وتركوه وحده، فأزعج ذلك الطفيل وآلمه، فأجمع على العودة إلى رسول الله ليخبره بما وقع معه، فلما بلغ مكة ذهب إلى دار رسول الله، وأفضى إليه بأمره، وهو في غاية الحسرة والكمد، حتى سأل النبي أن يدعو على (دوس)، التي رفضت وأبت دين الله. لكن نبي الرحمة والهدى رفع كفيه داعياً لهم لا عليهم، فقال: (اللهم اهدِ دوساً، واءتِ بهم مسلمين»، وقال للطفيل: «ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم»، وهنا ازداد الطفيل معرفة بالنبي، وحبّا له، وتعجباً من خلقه العظيم، وكيف لَعَمْرُ اللهِ يكون منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ غير ذلك، وهو الذي قيل له ادعُ على المشركين الذين عادوا المسلمين، وقاتلوهم وآذوهم، فأجاب: «إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة».. رجع الطفيل إلى قومه وهو مزودٌ بنصيحة الرسول، وظافرٌ بدعائه لقومه بالهداية، وأخذ يدعوهم برفق ولين وصبر، متذكراً وصية رسول الله له، فما مرَّ إلا زمن ليس بالطويل، حتى هدى الله دوساً، وجاء بهم مسلمين، واستجاب الله دعاء نبيه الكريم.