03 نوفمبر 2025

تسجيل

الإبداع والمعاناة

17 مايو 2012

هل سيحظى الأدب العالمي بروائع بمستوى الجريمة والعقاب وأوليفر تويست والحرب والسلام والبؤساء، لولا المعاناة الشخصية التي مر بها مبدعو هذه الروايات وكانت رديفاً لحياتهم بكل تفاصيلها، بما تمثله المعاناة من افتقاد الراحة والسعادة والأمان. فالمعاناة التي يشعر بها الإنسان مهما كان نوعها شخصية أو مادية أو حتى نفسية تحفز البعض ممن أوتي مَلَكَات خاصة لتحويل هذه المعاناة الى عمل إبداعي، والتي فسرها عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ بانها الإحساس بالدونية ومن ثمة التسامي — عن طريق الإبداع — بهذه الذات إلى التفوق على الناس العاديين والاستعلاء على مداركهم وطموحاتهم. وسواء أكان الألم جسديا أو نفسيا فإنه يلقي بظلاله الشاحبة على النفس الإنسانية ولان الإنسان كائن ماكر بطبعه ولديه القدرة على إيجاد الوسائل النفسية الدفاعية، إذ يستطيع تحويل هذا الإحساس المضني بالألم والمعاناة الى عمل إبداعي يمثل احدى وسائل الانتقام من هذه المعاناة. فالأديب الروسي الكبير ديستوفسكي الذي يعد من أكثر كتّاب الروايات تأثيراً في الأدب العالمي والذي حول معاناته من مرض الصرع وظروفه المادية والاجتماعية الصعبة والتقلبات الكبرى في الحياة السياسية في روسيا في القرن التاسع عشر إلى روايات خالدة أثرت الأدب العالمي، وكان محورها الغوص في أعماق النفس الإنسانية بخفاياها المبهمة وتقلباتها وصراعاتها، مما حدا بعالم النفس الشهير (سيغموند فرويد) بوصفه بأنه الفنان الذي يستحق الخلود. وكانت المعاناة رفيقة الحياة الدائمة للكاتب الإنجليزي العظيم تشارلز ديكنز الذي أبدع للأدب العالمي رواياته الشهيرة أوليفر تويست وقصة مدينتين وديفيد كوبر فيلد وغيرها، بطفولته البائسة في جنوب إنجلترا التي خيّم عليها الفقر والعمل المضني الشاق، ومن ثم قام بوصف عذابات ومآسي الأطفال العمال في بريطانيا في سنوات الثورة الصناعية الأولى في رواياته. كما لا يمكن أن نتحدث عن المعاناة وننسى فيكتور هيغو الكاتب الفرنسي الكبير الذي تعد روايته البؤساء من أشهر وأهم الروايات في الأدب الإنساني على الإطلاق الذي عاش طفولة قلقة ألقت الحروب التي خاضها نابليون الثالث بظلالها عليها ولم تنته بطلاق والديه لكن طفولته هذه لم تمنعه أن يقضيها مشدود الوثاق إلى الكتب كما وصفها هو بنفسه، وتعرض في شبابه لتجربة حب جامحة انتهت بالفشل إذ رفضه والد فتاته التي يحبها بسبب أوضاعه المادية البائسة حينذاك. المعاناة ليست دائماً سبباً للضياع والانحراف فللمعاناة الفضل في الكثير من الإبداعات التي أغنت الأدب والفن الإنساني وأثرت حياتنا وجعلت منها أجمل وأروع. وكما قال الأديب الألماني زيغفريد لينس قبل سنوات طويلة: (في عالمنا يصبح الكاتب هو الآخر عارفاً بالظلم والجوع والمطاردة والأحلام الخطرة، ويبدو لي ان عمله لا يمكن ان يستحق القبول إلا عندما يتخطى الصمت الذي يُدان به الآخرون).