31 أكتوبر 2025
تسجيلإن المسلم الحق إنسان بار بالوالدين يحيطهما بأجمل مظاهر الاحترام والتقدير، يقوم لهما إذا قدما على مجلسه وينكب على أيديهما تقبيلا ، يغض من صوته أمامهما تأدبا منهما وإجلالا لهما ويخفض لهما من جناحه، وينتقي العبارات المهذبة اللطيفة في حديثه معهما، فلا يجري على لسانه لفظ ناب أو عبارة خشنة جارحة ولا يبدو منه في تعامله معهما فعل عار عن أدب التوقير والتكريم والإجلال مهما تكن الظروف والأحوال، فالوالدان هما سببا وجود الإنسان ولهما عليه غاية البر والأنعام بالعطف والحنان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان فالوالد بالإنفاق والوالدة بالولادة والإشفاق فالله سبحانه وتعالى له نعمة الخلق والإيجاد، ومن بعد ذلك للوالدين نعمة التربية والإيلاد ، يقول حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث، ولا تقبل واحدة بغير قرينتها قوله تعالى (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، وقوله(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فمن صلى ولم يزل لم يقبل منه وقوله(أن اشكر لي ولوالديك) فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه، إن الأم حملت وليدها في أحشائها وهنا من بعد وهن لا يزيدها نموه إلا ضعفا فوق ضعف، حملته كرها ووضعته كرها.إن الأم تعلق آمالها على هذا الطفل الوليد فرحت بمقدمه فتناست آلامها وضعفها ورأت فيه بهجة الحياة وزينتها وزادها بالدنيا حرصا وتعلقا، ثم شغلت بخدمته ليلها ونهارها تغذيه بصحتها وتريحه بتعبها طعامه درها، وبيته حجرها ومركبه يداها وصدرها، تحوطه وترعاه تجوع ليشبع وتسهر لينام، فهي به رحيمة وعليه شفيقة إذا غابت دعاها وإذا أعرضت عنه ناجاها، وإن أصابه مكروه استغاث بها، يحسب أن كل الخير عندها وأن الشر لا يصل إليه إذا ضمته إلى صدرها، أما الأب فالابن له قرة عين ومهجة فؤاد يكَد ويسعى، ويدفع بصنوف الأذى بحثاً عن لقمة العيش لينفق عليه ويربيه إذا دخل عليه هش وإذا اقبل إليه بش، وإذا حضر تعلق به وإذا أقبل عليه احتضنه ، فالإحباط كل الإحباط أن يفاجأ الوالدان بالتنكر للجميل وقد كانا يتطلعان للإحسان ويؤملان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا الولد يتخاذل ويتناسى ضعفه وطفولته ويعجب بشأنه وفتوته، ويغره تعليمه وثقافته ويترفع بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفف والتبرم ويجاهرهما بالسوء وفحش القول، يقهرهما وينهرهما يريدان حياته ويريد موتهما، كأني بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين تئن لحالهما الفضيلة وتبكي من أجلهما المروءة، إن المتدبر للتوجيهات الربانية واللفتات النبوية الشريفة ،لا يسعه إلا أن يكون أبر خلق الله بوالديه في كل حال وفي كل آن وهذا ما كان عليه الصحابة ومن تبعهم بإحسان ،فقد سأل رجل سعيد بن المسيب رضي الله عنه قائلا :لقد فهمت آية بر الوالدين كلها إلا قول الله تعالى (وقل لهما قولا كريما )فكيف يكون القول الكريم ؟فأجابه سعيد :يعني يخاطبهما كما يخاطب العبد سيده وكان ابن سيرين رضي الله عنه يكلم والدته بصوت ضعيف كأنه صوت مريض إجلالا لها واحتراما، يقول تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) الإسراء 23، وإنه للربط المحكم بين عبادة الله وبر الوالدين ، وفي ذلك رفع لقيمة الوالدين وإعلاء لشأنهما إلى حد لم يستطع الحكماء والمصلحون وعلماء الأخلاق بلوغ شأنه في يوم من الأيام ولا يكتفي سياق الآية برسم هذه الصورة الوضيئة السامية لبر الوالدين ، بل يستجيش وجدان الرحمة والعطف والبر في نفوس الأبناء في تعبير وجداني رقيق ودود يقطر رقة وسلاسة وأنسا فحذار حذار أن تخرج منك كلمة تذمر أو ملل أو ضيق ولينطلق لسانك لاهجا على ما قدما لك من يد لا تنسى ومعروف وجميل لا يمحى.