13 سبتمبر 2025
تسجيليصعب على المرء أن يكتب أو أن يتحدث عن فقدان عزيز لديه، ولكنها الحياة تجبرنا على تقبّل الأحزان والأفراح دون سابق إنذار ودون علم مسبق بما سيجري وما سيصير وما سيحدث من أحداث في حياتنا وفي حياة من يحيطوننا في هذه الحياة الدنيا، ولكن معرفة طبيعة هذه الحياة الدنيا يهوّن علينا شيئاً بسيطاً من درجة حزننا ويقلل في الوقت نفسه شيئاً يسيراً من درجة فرحنا بكل الأحداث والوقائع. لقد شاء الله أن نفقد رجلاً من رجال قطر ممن بذلوا الكثير من أجل وطنهم ودينهم ومن أجل رضا الله عنهم في هذه الحياة الدنيا.. من أجل أن يُرضيهم الله سبحانه في الآخرة، وما أدراك برضا الله ممن عاشوا حياتهم من أجل رضاه سبحانه وتعالى فحسب، فلم يداهنوا ولم يجاملوا ولم يخافوا في الله لومة لائم، فاستحقوا أن يُجزيهم سبحانه العطايا في الآخرة، جزاءً ومكافأة وتكريماً لهم.. وهو الذي وصف عطاءه في كلمة واحدة.. (ولسوف يعطيك ربك فترضى). علي حسن الجابر سقط شهيداً قطرياً على أرض ليبية.. عربية مسلمة، يسقط على الأرض ليرتفع إلى السماء ومنها إلى جنان الخلد بإذن الله، سقط برصاص الغدر والخيانة وما عرف قنّاصوه بأنهم لم يضغطوا زناد بنادقهم ومسدساتهم ورشاشاتهم نحوه وإنما قد كتبوا بذلك نهاياتهم الشقية بأنفسهم في الدنيا والآخرة، وما ذلك بمشيئتهم له أن يكون قتيلاً لهم، ولكنها بمشيئة الله له أن يكون شهيدا عنده وأن يكونوا هم القتلة الذين خسروا الدنيا والآخرة في حين أنه قد حظي بهما معاً بإذن الله. ومن منا لا يفكر في نهايته كيف ستكون، وكيف ستصير نهايته في هذه الدنيا، بل إننا نفكر في ذلك كثيراً وطويلاً، ولعل أحدنا لو أشغل نفسه في ذلك كثيراً لأضاع وقته فيما لا يجدي، لأن النهايات العظيمة لابد أن تكون لها بدايات عظيمة، وفي المقابل لابد للنهايات السيئة أن تكون وليدة بداية سيئة، إذن فلنعمل لتلك القاعدة ونترك التفكير في النهاية لمن بيده كل شيء.. فهو الذي إن أطعناه أحسَنَ خاتمتنا، وإن عصيناه خَسرنا وأَساء خاتمتنا. لقد رحل علي حسن الجابر عن هذه الحياة، ولكنه ليس برحيل عادي ولكنها كذلك ليست بحياة عادية، رحيل يتمناه الجميع.. شهادة في سبيل الله.. حبٌ تمتلئ به قلوب الناس.. صلوات جنازة مهيبة.. احتشد فيها الآلاف حضوراً أو غياباً في قطر وفي ليبيا وغيرها من دول العالم العربي والإسلامي، في تذكرة لنا برحيل العالم الجليل الشيخ عبدالله الأنصاري الذي صلّت عليه الآلاف المؤلفة من شتى بقاع العالم العربي والإسلامي.. الأمر الذي لا ندركه نحن بعقولنا المحدودة، كيف يرفع الله شأن رجل ما.. يعيش في بلد ما.. دونما مزيد مال أو جاه أو سلطان، إنها المعادلة التي يضعها الله بين أعيننا بين الحين والآخر.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا، فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء ثم توضع له البغضاء في السماء) ما أبسطها من معادلة ولكنها ورغم بساطتها فإنها أصعب ما تكون على الناس، فمن اشترى سخط الله بحب الناس له.. خسر، ومن اشترى حب الله بسخط الناس له.. ربح وفاز، وكيف لا يفوز والله يهوّن عليه وينتقم له، وهو الذي قال مخاطباً نبيه (إن شانئك هو الأبتر) أي إن مبغضك ومن يكرهك فإن الله كفيل بوضع نهايته وتعجيل زواله، وإني على يقين تام بأن علي حسن الجابر رحمه الله تعالى لم يكن يفكر كثيراً في أولئك الظالمين من أتباع القذافي وأولاده وأعوانه ممن يحاربون الله ورسوله وإنما كان يفكر في رضا الله عنه بمعاونته لإخوته في العروبة والإسلام على أرض ليبيا.. أرض عمر المختار والشهداء، هناك تعلق قلبه وحول تلك الرغبة الجامحة في الشهادة حلّقت روحه.. حتى علِم الله في نفسه خيراً فرزقه إيّاها (من سأل الشهادة بصدق، بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه). إن ما يهوّن علينا خسران أخ أو صديق أو قريب أو حبيب في هذه الحياة الدنيا - في أوج حسرتنا وفي قمة حزننا – هو أن نفرح بحسن خاتمتهم أو باصطفاء الله لهم ليكونوا شهداء بإذنه تعالى، فضلاً عن تلك القصص والأحاديث التي يرويها الناس عنهم بعد رحيلهم في ذكر محاسنهم ومناقبهم وأفعالهم وآثارهم التي يعمّها الخير والصلاح ويكسوها حب الناس وأهل الخير من هذه الأمة من الذين جعلهم الله شهداء الله على خلقه.. فمن شهدوا له بالصلاح فهو في خير عظيم ومن شهدوا له بالفساد فهو في خطر عظيم. إن مصابنا أليم في فقد هذا الرجل الربّاني الفاضل.. الذي لم أعهد عليه سوءاً من قول أو عمل، كما عهد وشهد بذلك الكثيرون غيري، وإن فرحتنا لكبيرة في الوقت نفسه بأن الله اصطفاه وختم له في هذه الحياة الدنيا بنهاية عظيمة، في إشارة لما سيأتي بعدها من الخير العظيم والمنازل العظيمة التي سيخصّها الله للشهداء في يوم القيامة وفي الجنة، فحري به أن يشفع لسبعين من أهله يوم الحساب تكريماً للأقربين منه ولمحبيه، وحريّ به أن يحظى بمكانة ودرجة مميزة في الجنة تميّزه عمن ارتضوا الخضوع والخنوع في الدنيا، ممن سكتوا أمام سلطان جائر أو ممن انغمسوا في الملذات والشهوات ونسوا ما عند الله من النعيم الخالد. ولن أتحدث هنا عن شأن قاتليه من أولئك الذين انضموا إلى صف الطغاة والظلمة وعادوا الله ورسوله ولا حتى عن الطغاة أنفسهم وما أحدثوه من فساد في الأرض وضياع للبلاد وقتل للعباد، فإن المقام مقام سمو وعلو، فالشهادة والشهداء لا ينبغي أن يعكّر الحديث عنهما حديثا آخر عن الخيانة والخونة أو القتل والقتلة أو الظلم والظلمة فإن الحديث عن مزايا الأول يكشف بتلقائية عن قبح الآخر، وبقدر منزلة الشهيد ومكانته وعظم شأنه في الأمة تكون مكانة قاتله في جهنم والعياذ بالله، فلو علم أبو لؤلؤة المجوسي أن بقتله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.. شهادة في سبيل الله وحسن خاتمة له ورضي الله عنه وأرضاه.. وأن في ذلك أيضاً.. خلود لنفسه في قعر جهنم لما فعل ذلك أبداً.. ولكنها النهايات السعيدة التي يكتبها الله لأوليائه ولعباده الصالحين.. وهي في الوقت ذاته.. النهايات الشقية البائسة للظلمة والطغاة والعصاة.. حتى تتعادل النهايات فتمتلئ الجنة بالسعداء.. وتمتلئ جهنم بالأشقياء.. فاللهم ارحم عبدك علي حسن الجابر والشهداء من عبادك المؤمنين.. وارزقنا الشهادة في سبيلك..وحسن الخاتمة أجمعين.