16 سبتمبر 2025
تسجيل الحرب المجنونة على قطاع غزة، بعد مائة يوم من الوحشية والبربرية الصهيونية، والتي أخذت شكل إبادة جماعية، وحرب ضد الإنسانية، فإن حصادها مصاب، لوعة وألم، في البشر والحجر والشجر، لكن حصادها في الجانب الآخر، أكثر مرارة وألماً، وشتان بين ألم وألم، بين ألم يتحمله الإنسان تجملاً عن قناعة ويقين في جهاد يفضي إلى هدف نبيل سام، وبين مهووس بثقافة عنصرية شوفينية، وكراهية بلا حدود ومسح للآخر. لا يتحمل الالم، بل ينعكس عليه بسلوك عنيف وصدمة وخوف وقلق، وقد سجل الآلاف من افراد الجيش على لائحة العوق النفسي والعصبي الامر الذي استدعى ميزانية خاصة لمواجهة هذه النفقات!. بعد مائة يوم.. اسرائيل فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق اهداف الحرب، تعرض الجيش لخسائر هائلة في الضباط والجنود، فقد ما يزيد على 1000 عجلة بين دبابة وناقلة جنود وجرافة وغيرها! رافقه فشل بتحرير حتى اسير واحد! أما هدف القضاء على حماس، فها هي اشتباكات مجاهديها من كتائب القسام على الارض مع جنود الاحتلال، تتكرر في اليوم الواحد مرات عدة دليل الفاعلية والجاهزية القتالية، فضلا عن المعنويات العالية، بالإضافة إلى صواريخ وقذائف القسام التي لم تتوقف رشقاتها نحو المدن والبلدات داخل الارض المحتلة، هي أكبر شاهد على حضورها وفعّاليتها في إدامة زخم المقاومة، أما الهدف الثالث المهم فيتعلق باستعادة «الردع» المفقود فقد تلاشى وغاب عن البيانات العسكرية ومن الخطاب السياسي، لأنه ببساطة سقط تحت ضربات كتائب القسام في صولتهم المباركة في السابع من أكتوبر، وبها تمزقت سردية «الجيش الذي لا يقهر»! وهي واحدة من الأكاذيب التي تراكمت على مدى عقود من الزمن، لكنها تهدمت خلال ساعات. أما الداخل الصهيوني فهو منقسم انقساماً حاداً، والفجوة تتسع بين الصهاينة المتطرفين وبين الاكثر تطرفاً، بين من يعتقد بأن مواصلة الحرب لا تخدم سوى تطلعات وطموحات رئيس الحكومة نتنياهو، وحاجته لتحقيق اختراق عسكري يستعيد ما فقده، او يلمع صورته الملطخة بالفساد، وبين من يعتقد بضرورة مواصلة الحرب مدفوعاً بكراهية لا قبل للبشرية بها، تقضي- فيما يتخيله- بمسح غزة عن بكرة أبيها من الوجود. لكن ربما الحدث الأبرز خلال هذه المائة يوم هو مثول إسرائيل ولأول مرة أمام محكمة العدل الدولية باتهام معزز بالأدلة والبراهين لارتكابها الابادة الجماعية. أتقن عرضها فريق محامين متمرس يرأسهم وزير العدل في دولة جنوب افريقيا. من جانب آخر، دمر جيش الكيان الصهيوني بالقصف العنيف كل وسيلة للحياة على ارض غزة، مركزاً على المنازل والمشافي والمدارس ومراكز الإيواء والمساجد والمخابز. حتى لم يعد فيها شبر آمن، ترافق ذلك مع قطع الغذاء والدواء والماء والكهرباء والوقود. مستهدفا حرمان أهل غزة من مقومات الحياة، والذي ينجو من القصف الوحشي يموت جوعاً او عطشاً أو مرضاً، لم يستثن من ذلك حتى الأطفال الخدج! والغرض واضح والنوايا الخبيثة معلومة، دفع السكان للهجرة بهدف إخلائها، لكن هيهات! فالشعب أبيٌّ وهو يأبى ان يهاجر او يُهجّر، ومقاومة باسلة مذهلة وتأييد شعبي عالمي لا نظير له، وصورة إسرائيل النمطية في العالم باتت في الحضيض، والعالم وخصوصاً شريحة الشباب تراقب وتتأمل مبهورة من صمود أهل غزة الأسطوري. ويصدحون بمشروعية المقاومة وحق فلسطين في الحرية والوجود، بل يرون الحل في ازالة اسرائيل وليس في «حل الدولتين» كما تعدى تأثر الشباب الى «الدين» الذي صنع إنساناً قادراً على الصمود بل والاستهانة بالألم والحمل الذي تنوء به الجبال، ترافق ذلك مع السمو الاخلاقي والتميز الراقي. أرادوا مسحها «غزة» فتحولت إلى أيقونة واصبحت مصدر إلهام لجميع شعوب الارض. ولكن حملناها نفوساً كريمةً تُحمّل ما لا يستطاع فتحملُ لم تعد الصورة المزورة (للضحية الوادعة الباحثة عن السلام تستجدي تحسين فرص الحياة والمهددة من جيران متوحشين) لم تعد هذه الصورة لتنطلي على أحد، واستبدلت بصورة مغايرة تماماً، هي صورة الصهيوني الفاشي السادي المتوحش. هكذا اقترنت افعالهم باقوالهم. فمن ينكر؟ حتى بروباغندا الهولوكوست والمحرقة - صحت أم كذبت - تهدمت تحت انقاض غزة. أمّا المحرقة الحقيقية فهي هنا في غزة وهي ماثلة اليوم للعيان وسارت بأخبارها الركبان فلا يسع احد ان ينكر الا من كان اعمى البصيرة ارمد العين. صحيفة يديعوت احرونوت اختصرت مشهد ما بعد مائة يوم من تراكم الخيبات والهزائم: (علينا ان نتعايش مع الهزيمة!) وقبل ايام في مقال آخر: (عندما تكون في حفرة توقف عن الحفر اكثر… اقتباساً من مقولة “ دينس هيلي / وزير دفاع بريطاني «. حرب لا نهاية لها.. تدفع ثمن حياة جنودنا ولا تقربنا من النصر). وبينما اختارت الولايات المتحدة الأمريكية الاصطفاف حد المشاركة الفعلية في الحرب على غزة والتحقت بها بريطانيا وألمانيا دون أدنى مراعاة للمصالح الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية مع الدول العربية والإسلامية، فإن المصلحة تقتضي مراجعة واعادة تقييم العلاقات معها، أما الاقربون من غزة من المحيط إلى المحيط، باستثناء قلّة، الغالبية من الأنظمة والحكومات فقد فضلت الصمت واختارت القعود والتفرج وربما الاكتفاء بالحوقلة: وشرُّ سلاح المرء دمعٌ يفيضه اذا الحرب شُبّت نارُها بالصوارم على ان المنازلة لم تنته بعد ومن يجد في نفسه خيرا فليفعل، ومن جاهد فلنفسه، ومن قعد فعليها، وللتاريخ لسان يذكر وعين تبصر. كلمة اخيرة، كيفما ستكون مآلات هذه الحرب، فإن دروسها ومضامينها ترسخت وقضي الأمر، ألخصها بمايلي: • البحث عن حل عاجل لمظلومية فلسطين بات مطلباً عالمياً ملحّاً. • ان القوة العسكرية مهما بلغت فإنها عاجزة عن كسر إرادة شعب يتطلع إلى الحياة بشرف وكرامة. • ان الايمان الصادق لا زال كما كان في فجر الاسلام صانع أعاجيب ومعجزات. • ان اسرائيل دولة مارقة، وحشية بربرية عنصرية، تشكل خطراً كبيراً على البشرية لابد ان يتصدى لها المجتمع الدولي. • ان رهان الاتفاقيات المذلة والتنازل عن الحقوق املاً في استعادتها لاحقاً خيار فاشل. • وأخيراً سقطت الحضارة الغربية، بما فيها من قيم وركائز، وثبت ان المنظمات والقوانين الأممية الضابطة مجرد ادوات بيد القوة الغاشمة تستخدمها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الامن متى شاءت، للتلاعب في مصائر ما يقرب من مائتي دولة في العالم، لهذا فإن البحث عن نظام جديد اكثر عدلاً بات مطلباً غير قابل للتأجيل والعالم حقاً اكبر من خمس.