11 سبتمبر 2025

تسجيل

رقصة الانفصال الأولى

17 يناير 2011

خلال تجوالي في جوبا عاصمة الجنوب السوداني على مدى ثمانية أيام لرصد التداعيات التي ستنتج عن استفتاء تقرير المصير صليت من أجل الوحدة كنت آمل أن أعثر على بقاياها لدى المواطن الجنوبي لكنني فوجئت بحجم معاداتها والسعي بقوة إلى التخلص منها عبر الاستفتاء الذي اختتمت وقائعه مساء أمس السبت بعد حوالي أسبوع من عمليات التصويت التي جرت في أكثر من 2600 مركز اقتراع بالولايات الجنوبية العشر فضلا عن أكثر من 165 مركزا بولايات الشمال بالإضافة إلى المراكز الخارجية في دول المهجر لم أكتف بالصلاة من أجل الوحدة وإنما سعيت إلى محاولة معرفة مكانتها في ذهنية النخب السياسية والشارع الجنوبي والمدهش أن الإجابات جاءت جميعا متقاربة باتجاه رفض الاستمرار فيها على الأقل في المدى المنظور وهو ما بدا لي واحدا من رابع المستحيلات بعد أن شاهدت الملايين من سكان الجنوب يتدفقون على مراكز الاقتراع مستخدمين كل وسائل النقل وأغلبها عربات الربع الرباعي التي تتناسب مع الوضع الطبوغرافي لجوبا ولغيرها من ولايات الجنوب التي ما زالت تخاصم الطرقات الحديثة المرصوفة إلا شارعا رئيسيا يربط منتصف العاصمة وبعض أطرافها خاصة الأحياء التي يقع فيها مقر حكومة الجنوب والوزارات كان المشهد خلال أيام الاستفتاء التي قضيتها في جوبا ينبئ بحالة حماسة بالغة باتجاه الانفصال فالصفوف كانت تمتد على نحو حلزوني داخل مراكز الاقتراع التي تابعتها عن كثب وخارجها ومحتوية أصنافا من البشر مختلفي الملابس بين الزاهي والفاقع والهادئ ومرتدي علم الجنوب وأغلبهم من الشباب والفتيات تصاحبهم ضحكاتهم وابتساماتهم وتسكن الحيوية قلوبهم قبل أجسادهم جاءوا إلى مراكز الاقتراع ليوجهوا رسالة واحدة للعالم مؤداها أنه " إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر" وهي العبارة التي رددتها شعوب كثيرة في المنطقة في رحلة كفاحها الطويل من أجل الاستقلال الوطني خلال الحقبة الإمبريالية ولكن هل ينطبق هذا البيت للشاعر العربي التونسي أبو القاسم الشابي على حالة جنوب السودان وهل ما جرى هو مسعى لتحقيق استقلال وطن كان محتلا من قوى خارجية أم فصل جزء مهم عن الوطن الكبير؟ وعندما تيقنت من حقيقة الانفصال الذي بدا مرسوما على الوجوه والملامح بكيت فها أنا المنتمي لتيار وحدة الأمة ووحدة أقطارها أتحول إلى شاهد حي على واقعة انفصال الجنوب عن دولة الوحدة فاضت الدموع بمآقينا وأنا وزميلتي الصحافية المصرية بالأهرام أسماء الحسيني العاشقة للسودان - كل السودان - ونحن نتابع آخر تجليات الحملة السياسية التي نظمتها الحركة الشعبية – الحزب الحاكم – في الجنوب بحضور أكثر من عشرة آلاف مواطن تجمعوا من كافة قبائل الولايات العشر المكونة للجنوب ومارسوا أمامنا نوعا من الرفض الجماعي لخيار الوحدة بل أعلن أحدهم بصريح العبارة: نعم للانفصال ولا للتعريب وللأسلمة وللطغيان والتهميش في إشارة إلى ممارسات سلطة الحكومة المركزية في الخرطوم والتي كتبوا عبارات وداعية لهم أخذوا يلوحون بها على مدى الساعات الخمس التي استغرقها اللقاء الجماهيري الذي حضره الرجل القوي في الحركة الشعبية باجان أموم أمينها العام ووزير السلام بحكومة الجنوب والذي ترجل خطابا سياسيا استغرق وحده ساعتين بدا لنا وكأنه ينتقم من ممارسات حكومة الخرطوم ضده شخصيا والتي وصلت ذروتها العام الماضي عندما اعتقلته قوات الأمن على خلفية خروجه ضمن قيادات أخرى للضغط عيها للإسراع بتطبيق اتفاقية السلام وإلغاء القوانين المقيدة للحريات حيث شن حملة ضارية على ما وصفه بدولة السودان الفاشلة والتي رأى أنه من المستحيل الاستمرار في وحدة معها وقال "حتى لو هبط يوم التاسع من يناير- أول أيام الاستفتاء - من النار وليس من السماء فإننا سنخترق هذه النار للتصويت على تقرير مصيرنا "وهو ما فجر الساحة الواسعة التي كانت تحتضن اللقاء بجامعة جوبا التي يتم ترميمها في الوقت الراهن بالهتاف ضد الوحدة والدعوة إلى الانفصال الفوري خاصة بعد أن ذكر أن ضحايا الحروب التي خاضها الجنوبيون يتراوحون بين 4 و5 ملايين شخص ما شاهدناه في هذا اللقاء جسد حالة من الهستيريا التي تمددت في أجساد الجميع وتنوعت تجلياتها بين هتافات ورقصات تقليدية قدمتها فرق عدد من قبائل الجنوب بأزيائها الفاقعة الألوان وإلقاء قصائد الشعر والأغاني وكلها تؤدي رقصة الانفصال الأولى وليس الأخيرة. خلال الأيام التي أمضيتها بجوبا تجولت في أحيائها سواء الراقية التي يسكنها كبار القوم من قيادات الحركة الشعبية والجيش الشعبي وكبار مسؤولي الحكومة والمكونة من فيلل وبيوت بطابق واحد بدت لنا نظيفة ومهندمة معماريا فضلا عن احتوائها على مكيفات الهواء والمناطق الشعبية التي ما زالت تستخدم المنزل الإفريقي التقليدي المكون من البوص والمغطى بجذوع الأشجار فبدت لي مسكونة بهاجس واحد هو التأهب للرحيل عن الوطن وتركه بلا عودة كانت الجدران والطرقات والسيارات والميادين العامة المحدودة في المدينة زاخرة بمختلف ألوان التحريض على الانفصال كان هناك حشد وتعبئة واسعة ضد الوحدة مارسه قادة الحركة الشعبية على مدى الشهور الست الأخيرة عبر كل وسائط الإعلام المحدودة والتي ما زالت غير واسعة الانتشار وكذلك عبر الوسائل البدائية التي تتناسب مع طبيعة حياة القبائل التي ما زالت أعداد هائلة من المنتمين إليها غير مؤهلين تعليميا حيث تتجاوز الأمية نسبة ال80 في المائة وأسهم الأمين العام للحركة الشعبية باجان أموم بالنصيب الأكبر فيها حيث تجول في أغلب ولايات الجنوب العشر خلال الأسبوع الذي إجراء عملية الاستفتاء وعرض علي وعلى زميلتي أسماء الحسيني مصاحبته خلال إحدى هذه الجولات لكن ما حال دون المشاركة فيها هو وصولنا إلى جوبا بعد أن غادرها والرجل يتمتع بالكاريزما ويصفونه بأنه الأكثر قدرة على التعبير عن فكر الزعيم الراحل للحركة الشعبية جون قرنق حيث كان واحدا من أهم المقربين إليه بدرجة تفوق قرب سلفاكير ميارديت الذي تولى قيادة الحركة بعد رحيله المفاجئ في أعقاب توقيعه على اتفاقية السلام بنيفاشا في عام 2005 وثمة من يتوقع المزيد من الصعود السياسي لأموم في مرحلة بناء الدولة الوليدة إذا استمر الانسجام الراهن بينه وبين سلفاكير ويمكن القول إن هذه التعبئة الجماهيرية والتي يبدو أنها كانت ممنهجة ومخطط لها على نحو جيد لعبت الدور الأساسي في دفع سكان الجنوب إلى الانحياز للتصويت لخيار الانفصال حتى قبل أن يبدأ الاقتراع في سابقة تكاد تكون هي الأولى من نوعها حيث بات الجميع يعلمون نتيجة الاستفتاء وهو ما أفقده طعم المفاجأة وسمة التنافس والصراع بين موقفين ورؤيتين لكن بالتأكيد هناك عوامل أخرى دفعت إلى هذا الانفصال الذي سيمزق وطنا بحجم السودان قبل إرسال المقال: بيت الشعر الذي قاله الشاعر أبو القاسم الشابي قبل أكثر من سبعة عقود: "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"تجسد بقوة في شعبه العربي التونسي الذي انتفض طالبا الحرية فصنع معادلة جديدة تنهض على أن الخبز وحده لا يصنع الأوطان وإنما الحرية والخبز معا. السطر الأخير: مرسومة قصيدتك بعيني أيتها المغزولة بوجودي السابحة ببحاري الناضجة بثماري يرتدي قلبي عشقك نبضا يدق أوتاري فتفاجئني شمس صباحاتك ترسل عطرها بنهاري تمنح الكون سر بهائها فترقص العصافير تبث فرحها المقيم بأعالي الأشجار