14 سبتمبر 2025
تسجيلنعيش لحظات تاريخية هذه الأيام مع تفكك مجموعة اليورو الأوروبية بإعلان اليونان رغبتها في العودة للدرهم عملتها القديمة وتهديد إيطاليا بالإفلاس. وننسى أن هذا الزلزال الأوروبي سبقه عام 2008 زلزال الدولار الأمريكي. وهو ما يؤكد أن ثورة حقيقية عميقة تهز أركان الغرب لا نقديا فحسب بل سياسيا واستراتيجيا وحضاريا. وهنا نفهم كيف تتطوع الصين...الدولة الشيوعية الأعظم لإغاثة أوروبا الليبرالية! فلا أحد ينكر اليوم بأن عدم استقرار قيمة العملة الخضراء أصبح يهدد المخزون المالي للبلدان المصدرة للنفط ويهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لدول الاتحاد الأوروبي، وشرع يزعزع حالة الرفاهة والنعماء التي طالما تمتعت بها دول جنوب شرقي آسيا، كما لا أحد ينكر بأن عديد الدول بدأت تفكر وتخطط لاستبدال الدولار بسلة عملات منها اليوان الصيني والين الياباني في المبادلات التجارية الدولية، وأخيرا لا أحد ينكر بأن استمرار اعتماد الدولار كعملة مرجعية ليس مرده قوة الاقتصاد الأمريكي بل وأساسا قوتها السياسية وهيمنتها الاستراتيجية والعسكرية. هذه الحقائق أصبحت اليوم بديهية ومعترفا بها لدى أصحاب القرار ورجال المال والأعمال، خاصة ونحن نجتاز أزمات عالمية مختلفة وخطيرة، ليس أقلها ثورات الجوع وعودة الحرب الباردة ودخول الغرب من خلال تعملق حلف الناتو إلى منطق المواجهة وحسم الصراعات بالقوة العسكرية كما في ليبيا وقبلها أفغانستان أو التهديد بالقوة النووية أمام المعضلة الإيرانية، إلى جانب سقوط المصارف الكبرى وإفلاس الشركات العابرة للقارات وتدخل المصارف المركزية لضخ الأموال الطائلة في شرايين الاقتصادات الغربية المنهكة. وفي كل هذه الحقب المتلاحقة نجد أن للدولار واليورو دورا محوريا في إعادة إرساء العلاقات الدولية على أسس القوة والاحتلال والتحدي بدل البحث الرصين عن حلول السلام العالمي والعدالة الدولية! حتى نفهم حقيقة الوضع المالي الأمريكي والدولي لا بد من لمحة تاريخية تنير الواقع، فالدولار عملة الولايات المتحدة منذ عام 1785 لكنه لم يصبح المرجع الأول للاقتصاد العالمي سوى عام 1944 بإنشاء النظام العالمي النقدي المعروف ببريتن وودس، فاحتل الدولار مكانة الجنيه الإسترليني ومعدن الذهب في الوقت نفسه،وتحول إلى " أصل" أو إلى ميزان به وحده تقاس قيمة العملات الأخرى واعتلى عرش المالية والتجارة الدوليتين بلا منازع. وهذا الصعود يتناغم ويتماشى مع الحدث السياسي الكوني حيث كانت أمريكا هي القوة الكبرى التي حسمت الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء الغربيين ضد قوات المحور المؤلفة من ألمانيا النازية واليابان الإمبراطوري وإيطاليا الفاشية بمأساة إلقاء أول قنبلة نووية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، ولتصبح واشنطن سيدة العالم الغربي الرأسمالي وتعوض الإمبراطوريتين التقليديتين الاستعماريتين: فرنسا وبريطانيا، خاصة وأن الولايات المتحدة خرجت من الحرب بلا ضرر وطني كما كان الحال في أوروبا، فهي بفضل الجغرافيا جزيرة عملاقة نائية عن مسرح العمليات، وتملك 75% من مخزون الذهب في العالم. أما اليورو فتم إقراره في 17 دولة أوروبية باستعجال ثبت أنه لم يكن خيارا حكيما حين شهدنا خلال الأسابيع الأخيرة ثورات الشعوب الغربية منادية بأن الشعب يريد إسقاط بريتن وودس واحتلال وول ستريت على غرار الثورات العربية وبنفس الشعار حين تعاظم الاقتصاد الأمريكي بفعل الغلبة العسكرية ورفع الدولار إلى أعلى عليين ليصبح " الحكم" في كل المباريات التجارية بين دول العالم وفرضت واشنطن لا فقط عملتها بل كل النظام النقدي الدولي (بريتن وودس) الذي يسير الاقتصاد العالمي بسن سياسات جمركية وإنتاجية وصناعية سويت بالضبط على قياس المصالح الغربية المصرفية لا الشعبية وأدت إلى ما يتخبط فيه العالم اليوم بعد مضي عقد على القرن الحادي والعشرين من انعدام الأمن الغذائي واتساع دائرة الحرمان وانزلاق كثير من شعوب الغرب مثل مناطق الجنوب الفقير إلى مخاطر المجاعات والهزات الاجتماعية والعنف السياسي. فالحروب الإقليمية الراهنة ليست في جوهرها سوى النتيجة المنطقية للظلم السائد في العلاقات الدولية وانعدام الحق وانخرام القانون وتغييب الحريات وقيم العدل والمساواة في العالم. أي أن هيمنة الليبرالية المتوحشة على الاقتصادات الوطنية الغربية والعربية والعالمية منذ ستين عاما هو التعبير المؤكد لهيمنة البنوك والشركات العملاقة المفروضة قسرا على المجتمع الدولي. وبالتالي يمكن الاستنتاج بأن هذا الوضع الشاذ الذي طال بدأ يتغير بفضل إفلاس كثير من السياسات الغربية الخاطئة حينما نجحت ثورات عربية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط في فرض علاقات دولية أكثر عدلا وحينما صعدت للساحة العالمية بلاد عملاقة مثل الصين وتعقبها الهند مع نزعات استقلالية يابانية متنامية وحين خرجت عن بيت الطاعة إلى حد اليوم سبعة دول من أمريكا الجنوبية وحين تفاقم الخطب العراقي وتشعب المستنقع الأفغاني لإعلان إفلاس الخيارات الأمريكية في التعامل مع العالم الإسلامي والشرق الأوسط وحين ينفجر تدريجيا برميل البارود الفلسطيني بعد الاحتقان والحصار والتجويع والترويع في قطاع غزة معلنا بلوغ المخططات الأمريكية للسلام المغشوش نهاية النفق، فالشهيد ياسر عرفات أول زعيم اعترف بالدولة اليهودية ومد يده بغصن الزيتون مات تحت ركام بيته المقصوف بالقنابل والجرافات حتى ولو مات في مستشفى برسيه بباريس مسموما. هذه نهاية بريتن وودس واقتراب نهاية سيادة رأس المال. وربما تدشين عهد عالمي جديد يقوم على قوة الحق لا على حق القوة. ولعل تونس برفضها الاستبداد دشنته لدى العرب كما أن عودة الوعي الأوروبي والأمريكي ستقود العالم الغربي إلى مرحلة جديدة مبتكرة من السلام الحقيقي القائم على العدل والتعاون السليم أي على قيم أخلاقية لتعويض النظام المنهار الجائر والبناء على أنقاضه عوض ترميمه من دون جدوى!