19 سبتمبر 2025
تسجيلحينما هبت عاصفة الفيروس "كوفيد - 19" على العالم أول ما بدأ يحصد ضحاياه كان اقتصاد العالم ونظامه القديم أول الساقطين بلا شرف في ساحة الوغى الصحية والسياسية، بسبب غلق الحدود ووقف الطيران والنقل عموما، ثم تعطل المصانع وتخفيض إنتاج الطاقة، وتباطؤ عمل البنوك وزعزعة قطاع الغذاء ونقص المشافي وندرة الأطباء، فشرع قادة السياسة والاقتصاد والمال في كل الدول في عملية إعادة النظر بجدية في النظام العالمي الجائر ومرافقه النظام النقدي الدولي المعروف باسم (بريتن وودس). وحين قررت الادارة الأمريكية انقاذ المنظومة المصرفية والتأمينية والصناعية في الولايات المتحدة بضخ مبلغ 700 مليار دولار منذ الأيام الأولى تبعها الاتحاد الأوروبي بضخ مبلغ مواز باليورو، لمحاولة منع انهيار الاقتصاد الأوروبي أو على الأقل تأجيل انهياره، واجتمع في بروكسل رؤساء الدول الأوروبية عن طريق البث الرقمي مع محافظ المصرف المركزي الأوروبي، ليقرروا أن أوروبا تختلف عن الولايات المتحدة في تركيبتها الدستورية والاقتصادية، لأن الاتحاد الأوروبي مشكل من 27 دولة ذات سيادة كاملة على مدخراتها المالية، ولديها 27 مصرفا مركزيا، عكس الولايات المتحدة ذات المركزية النقدية الراهنة والعريقة (الخزينة)، رغم أن لديها فسحة أكبر من الزمن لتعدل من مسارها، وتحور من خياراتها لمجابهة الأزمة. وجاءت قرارات الحكومات الأوروبية منذ شهر مارس 2020 والقاضية بضخ مبالغ مالية من خزينة الدولة لانقاذ مصرف (فورتيس) البلجيكي وشركة (ديكسيا) الاستثمارية المشتركة بين فرنسا وبلجيكا، وهو ما يثبت ويؤكد أن استقلالية أوروبا في هذا المجال تبقى استقلالية نسبية، وأن الاعصار الذي انطلق من الصين (بانفلات الفيروس من مخابر صينية على رأي الرئيس ترامب) لابد أن يعبر المحيطات ليزرع الخوف والجزع والموت في نفوس المواطنين الأوروبيين، مهما كانت نسب تعاملهم الصحي، ومدى نجاعته، نظرا الى أن هذا الوباء غير مسبوق في التاريخ الحديث، وبالتالي اتسم التعامل معه ومع انتشاره السريع بالتخبط وتضارب قرارات السياسيين مع لجان علماء الطب والاستشاريين!. وذهب رئيس الجمهورية الفرنسية (السيد ايمانويل ماكرون) الى حد تشبيه هذا الاعصار بالهاوية، قائلا الأسبوع الماضي بأن العالم على شفا هاوية في حال ما إذا تردد في بناء نظام مالي واقتصادي جديد على أنقاض نظام (بريتن وودس)، أي نظام يأخذ بعين الاعتبار نتائج الوباء والمخاطر المحدقة باقتصادات ومجتمعات دول لا تستقل بقراراتها عن غيرها (وهو بالطبع يقصد الارتباط الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة). الغريب أن ما يحصل في العالم اليوم سبق واستشرفه بعبقرية نادرة أحد أصدقائي الكبار الذين أعتز بهم، وطالما عرضت مواقفهم في مقالاتي المتواضعة في هذه الصحيفة، وهو عالم الاقتصاد الأمريكي الشهير والمرشح الأسبق لرئاسة الولايات المتحدة عن الحزب الديمقراطي (ليندن لاروش) المتوفى منذ سنة، والذي طالما اعتبره منافسوه السياسيون رجلا يحلم أو يهذي! أو في أفضل الحالات يصنفونه ضمن اليمين المتطرف!. والسبب الحقيقي لهذا التجاهل المبرمج هو تجرؤ ليندن لاروش على انتقاد اسرائيل لا على أسس أيديولوجية، ولكن من منطلق أن سياسات الدولة العبرية تهدد السلام الاقليمي والدولي، وهو نفس الموقف الذي بدأ يجاهر به حتى قادة الفكر في اسرائيل ذاتها بنوع من عودة الوعي واسترجاع الحكمة والحرص على بقاء اسرائيل!. اليوم فقط شرع الأذكياء من القادة الأمريكان والأوروبيين والروس يردون الاعتبار للسيد ليندن لاروش، فالصحيفة الأولى في ألمانيا (فرنكفورتر ألغاماين زيتونغ) الناطقة عادة باسم الطبقة الحاكمة وأصحاب المال والأعمال كتبت يوم 21 سبتمبر تقول بقلم الكاتبة والخبيرة (أوبر هيبر): حينما تنبأ لاروش منذ سنوات بحصول هذه الكارثة لم يحفل بأفكاره رجال الاقتصاد. أما اليوم فالأغلبية منهم يكررون ما قاله لاروش، وأضافت الكاتبة: لقد كان لاروش يتميز برؤية ثاقبة وفريدة في التكهن بانهيار النظام النقدي العالمي، وهشاشة العالم أمام خطر وباء أو حرب كونية، وفي الكونغرس الأمريكي بدأت تتشكل مجموعة ضغط تتبنى مواقف ليندن لاروش، وتحاول تطويق الأزمة، وتطبيق العلاج الحقيقي الحاسم الذي اقترحه عالم الاقتصاد الأمريكي. لكن هل تحرك العرب لتقييم مدى ارتباط منظوماتهم المالية بهذه الأعاصير؟ أذكر أنني في احد لقاءاتي العديدة بالصديق ليندن لاروش حينما دعاني في ضواحي واشنطن للغداء في (رانشه) في بنسيلفانيا سنة 1984 قال لي: حين ينهار النظام العالمي الجائر الذي أسسه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية سيكون العرب أول الضحايا، لأن أغلب استثمارات العرب ومدخراتهم تأتي للولايات المتحدة بدون تنويع الملاذات المالية، في حين أن الأمريكان أنفسهم يستثمرون في الصين!، وأن العملة النقدية العربية دائمة الارتباط بالدولار وحده، وأن المصارف الأمريكية والأوروبية بدأت تشتري نسبا مئوية هامة من رؤوس أموال المصارف العربية الوطنية والخاصة. وهذه العوامل سوف تحد من استقلالية الحركة العربية لو بدأت تهب عواصف الانهيار والتغيير، كما هو الحال مع الوباء القاتل، بالاضافة الى غياب التنسيق والتشاور بين الدول العربية في مجال السياسات النقدية. انني أسوق هذا الرأي السابق بثلاثة عقود عن ظهور الأزمات لكي نعتبر جميعا بالأحداث، ونستخلص الدروس، وندرك أن للعرب قوة كامنة في التحكم بمصائرهم لم يستغلوها الى اليوم، فلننظر كيف واجه اليابانيون والروس والصينيون أزمة اليوم، لنتعلم كيف نستقل ونفعل هذه القوة الكامنة من أجل خير شعوبنا. [email protected]