02 نوفمبر 2025
تسجيلسئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبالك يسأمهل إحتاج شاعر المعلقات الكبير زهير بن أبي سلمى لثمانين سنة حتى يسأم من الحياة وتكاليفها في زمن يجاهد فيه الناس من أجل البقاء، وتوفير أساسيات الإستمرار في الحياة، فالموت العشوائي المسلط عليهم لا يفرق بين شيخ وشاب إذ يصيبهم بسهامه الطائشة أينما حلوا وإرتحلوا، فالغزوات والحروب والسبي والأسر مصير يتهدد الجميع، وهوام الصحراء ودوابها بالمرصاد لكل الأحياء، والأمراض والأوبئة والمجاعات تفتك بهم ولا ترحم. وإذا كنا في زمننا هذا نسأم من تكاليف الحياة ولم نبلغ نصف العمر الذي بلغه زهير بن سلمى ونحن نعيش في رفاه لم يتوفر حتى للملوك والأباطرة في ذلك الزمان، وما ذلك إلا لأن الحياة المعاصرة رغم توفر أسباب الراحة والأمان فيها إلا إنها أكثر تعقيداً وتطلباً وأصعب مراساً من الأزمنة الخوالي.فالرفاهية التي نتمتع بها لها ثمن باهظ ووسائل الراحة التي تحف بنا من كل جانب أخذت منا بقدر ما أعطتنا، فحياتنا المعاصرة سلسلة زمنية متواصلة من الجهد المبذول من أجل الحصول على المال، ليتسنى لنا أن ننفق هذا المال لنكون مساوبن للآخرين في مستوى الرفاهية إن لم يكن أفضل منهم. فالمزيد من المغريات يعني مزيد من الجهد المطلوب لتوفير المال اللازم لإقتناء هذه المغريات.وإذا كانت حياة أسلافنا حتى فترة زمنية قريبة تتسم بالمجهود البدني العالي فإن حياتنا المعاصرة على قلة هذا المجهود إلا إنها تتميز بكثرة الإنشغال الذهني والنفسي وقلة الرضا عن الذات، حتى إبتكرنا الرياضة لنعوض قلة نشاطنا البدني، لكننا لم نوفق بإبتكار يخفف من القلق والتوتر الذي يطغى على حياتنا.التقدم التكنولوجي غير حياتنا بشكل جذري وغير من طبيعة علاقاتنا الإجتماعية والإنسانية، بحيث أصبحنا نتفاعل مع آخرين ضمن عالم إفتراضي من خلال الفيس بوك والتويتر والإنستغرام والواتساب وغيرها أكثر من تفاعلنا مع الأشخاص الحقيقيين الذين يعيشون حولنا، والتقدم التكنولوجي أيضا أعاد تشكيل مظاهر كثيرة على سطح الأرض لتتناسب مع هذه التغيرات، التكنولوجيا بالتالي سيطرت علينا وجعلتنا خاضعين لها.مشكلات ومشكلة التكنولوجيا إن الإبتكارات الجديدة دائماً تخلق جديدة وتتطلب بالتالي حلولاً للتعامل معها للتغلب على حالة عدم التوازن الحاصلة.وتتحدث الفيلسوفة الألمانية هانا أرنت عن وضع الإنسان في المجتمعات المعاصرة بقولها (أنه في الوقت الذي يزداد فيه شعور الإنسان بالقوة لإعتماده على الإكتشافات التكنولوجية والبحث العلمي، تتضاءل قدراته على التحكم في نتائج أفعاله، مما يعني تراجع وتقلص دوره في حياة المجتمع كما تتضاءل حريته السياسية، وهذه مأساة الإنسان في المجتمع التكنولوجي المعاصر ).كما قال أيضاً عالم البيولوجيا الإسترالي جيريمي جريفث (الإنسان المعاصر يعيش في وهم كبير، إذ يتصور أنه يدرك كل ما يدور حوله بينما هو غائب في حقيقة الأمر عن إدراك ماهية وكنه الأشياء، بما فيها كنه ذاته نتيجة ذلك الانبهار بالتقدم التكنولوجي، الذي يصرفه عن التفتيش في أعماقه الداخلية، لمعرفة حقيقة أبعاد وضعه الإنساني في هذا العالم، واختيار الطريق الذي يوحي به تكوينه الداخلي الخاص ).التكنولوجيا منحتنا الراحة والرفاهية لكنها لم تمنحنا السعادة والرضا عن النفس.