10 سبتمبر 2025
تسجيلفيما سبق حاولنا استكشاف البيئة التي نشأ فيها العقل العربي المسلم والتي ملأها المرجفون بالفتن والدسائس للقضاء على الإسلام في مهده بحيث لم يتركوا فرصة لذلك العقل لكي يفكر إلا في تثبيت دعائم الحكم. إذا كان أهم ما يُشكل العقل، أي عقل، هو العلم والثقافة، فسنجد أن العقل العربي المسلم قاوم تلك الفتن بفطرته السليمة وبمقتضى مهمته القويمة. فنجد أن حركة بناء الكيان الإسلامي على الأسس العلمية والحضارية بدأت مبكرا مع الخليفة عمر الذي استفاد من النظم الإدارية للفرس، واستمر ذلك مع عثمان وعلي. لكن مع الاستقرار النسبي الذي بدأ مع حكم معاوية، وإن تحول إلى ملك عضود، فقد بدأت الاستفادة من علوم الأمم الأخرى تنشط وتنطلق، من خلال الترجمة، إلى آفاق النمو الذي يتناسب مع انطلاقة صاروخ الإسلام الصاعد. لكن مع هذه الحركة العلمية والثقافية المتقدة سارت مكائد الإرجاف بخطى لا تقل سرعة وحماسة لتشويه ذلك العقل الذي شكله، للتو، الرسول الكريم ﷺ. فظهرت لدينا ما سُميت «الفلسفة الإسلامية» التي ستقوّض، ولو بعد حين، جُل ما حصله العقل العربي المسلم من علوم وتقدم لترده إلى عقلية الشعوذة والتخلف، والتي لم يتخلص منها للآن نتيجة سجنه في سجن «الاستخراب» العالمي الذي جعل التخلف فرضا عليه وليس مجرد عملية تشويه وإفساد. هنا سنجد أن اللحظة التي ستكون سببا في الهبوط التدريجي لصاروخ الإسلام، هي تلك التي بدأ فيها المسلمون بالتخلي عن جوهر العقل المسلم المتمثل في نظام تفكيره وحياته، ألا وهي سنة الرسول الكريم ﷺ، ليعود إلى الجهالة والشعوذات. ولعل التاريخ حافل بنماذج وأمثلة كثيرة على هذا التحول لكن مواقف مهمة في سيرتي عمر ومعاوية توضح بجلاء بداية التحول. عندما ذهب عمر لاستلام مفاتيح القدس توجه إليها بثوب مُرقعٍ ربما أقل بهاء من ثوب خادمه. بل إنه كان يتبادل ركوب راحلته مع الخادم غير آنف ولا متكبر، حتى تمرغت رجلاه بالوحل. كما أنه عندما وصل هناك جلس على الأرض لتناول طعامه فإذا وقع منه شيء التقطه وأكله. بالمقابل، وهنا مربط الفرس، كان بعض مرافقيه ومنهم معاوية يشيرون إليه، ألا يفعل تلك التصرفات حتى لا يحقِرَه أهل القدس. فيرد عليهم بقولته الشهيرة، «أأترك سنة رسول الله ﷺ من أجل هؤلاء الأجلاف»، إننا قوم أعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. والعجيب أن ما فعله عمر تحديدا كان هو السر وراء الفتح، سِلْمَا، إذ أخبره صفرونيوس بطريرك القدس إنه يجد فيه كل علامات الرجل الذي يتسلم مفاتيح القدس، ومنها الثوب المرقع ب 17 رقعة. وقد سجل أهل القدس تلك اللحظات في مخطوطات يونانية في دير المصلبة مع رسم يوضح هيئة عمر يومها. وأورد د. محمد حسين هيكل في كتابه الموسوعي « الفاروق عمر» أن عمر نهَرَ قادته، ومنهم معاوية وخالد وأبو عبيدة، لما رآهم يستقبلونه وعليهم الديباج، وقال لهم «سرُعَ ما لُفِتٌم عن رأيكم!» أي تخليتم عن السنة، مهددا إياهم بعزلهم. بل إنه بكى ليلة الفتح مذكرا بحديث «ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أن تبسط الدنيا عليكم». وكيف لا وهو الذي دخل على الرسول الكريم ﷺ، وهو ينتظر حكم الله في زوجاته، فيجده وقد علٌم الحصيرُ في جسده الشريف فيقول له، باكيا، إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله، فيقول له ﷺ ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة. وجاء في طبقات ابن سعد أن عمر علا معاوية بالدرة، مرة، لما رآه معجبا بنفسه. ورغم ذلك فسيعيد معاوية بناء قصره في دمشق لأن رسول القيصر لم يعجبه بيته، فيرسل له عمر مستنكرا «أقيصرية يامعاوية»؟. هنا تتضح لحظة التحول بجلاء. فمعاوية الذي سيصبح خليفة المسلمين لاحقا سيسكن، ومَنْ بعده، القصور ويسيرون سيرة الفرس والروم في تعظيم حكامهم. ورغم أنه ستكون له إنجازات لا تنكر في بناء الكيان الإسلامي إلا أن ذلك التخلي عن سنة النبي ﷺ في نبذ التَرَفْ سيكون له أثره السلبي في نفوس من سيأتي بعده من حكام باستثناءات قليلة، لينطبق على المسلمين حديث الوهن وحب الدنيا. وعند تلك اللحظة سيبدأ التقليد إعجابا بالآخر لينطبق على الأمة، ولو بعد قرون، حديث الرسول ﷺ الآخر عن اتباع سنن الأولين، حتى دخول جحر الضب. وكان من أخطر الدسائس التي دخلت على المسلمين في ظل هذا التغير الفكري، المصاحب للرغبة في تحصيل علوم الأمم الأخرى، تسرُب الفلسفة الغربية عبر الترجمة ليس كمادة يستفاد منها ولكن كمادة بديلة أو مزاحمة للفكر الإسلامي ذاته. ففي الوقت الذي أطلق معاوية ومَنْ بعده، ومنهم عمر بن عبدالعزيز، حركة الترجمة والنقل، انطلقت أيضا حركات فكرية تشويهية تحدث عنها المستشرق الألماني يوهانس هالم وسماها *الغنوصية في الإسلام*، فيقول:»الغنوصية ظاهرة هرطقية، ظهرت في فترة متأخرة من العصور القديمة، وظهرت بثوب إسلامي بنهاية القرن الأول الهجري، وغلب على مختلف فرقها طابع الغلو والزندقة. وانطلقت من العراق وتركزت في العديد من الفرق.» والأهم أنه يثبت أن الغلو، رغم تعدُد فرقه، يُمثل منذ بداياته وحتى اليوم، تياراً واحداً لتقليد متواصل مبني على أفكار ابن سبأ وقبيله. واذا كانت الفلسفة تُعرّف بأنها وسيلة لتسهيل التفكير وفهم الأشياء فما حاجتنا نحن المسلمين إلى ذلك وعندنا المرجع الذي لا قبله ولا بعده ولا مثله. ولا غرو أن فتح باب الفلسفة الغربية علينا كان هو «صندوق باندورا» الذي دخلت علينا منه كل الشرور. وللحديث صلة.