19 ديسمبر 2025
تسجيلصدر الأسبوع الماضي كتاب (الإسلام والديمقراطية) بالفرنسية عن دار نشر باريسية للمفكر الأستاذ في القانون الدستوري عياض بن عاشور وهو نجل العلامة محمد الفاضل بن عاشور وحفيد صاحب التحرير والتنوير العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، رحمهما الله، والأستاذ عياض كان أستاذي في مادة القانون الدستوري بالجامعة التونسية ولم يكن آنذاك يكبرنا إلا بسنوات قليلة وأحتفظ له بذكرى الأستاذ الشاب الخبير بخفايا هذا الفرع من القانون، وهو كما يعلم أهل تونس من النخبة الفكرية "البورجوازية بالمعنى الإيجابي" التي لم تنخرط في الأحزاب، حاكمة كانت أو معارضة، وظلت (مثل هشام جعيط) بعيدة عن الصراعات السياسية غير راضية بما حدث في عهد بورقيبة من "إصلاحات" وانحرافات. المهم أن هذا الكتاب قدم جملة من الرؤى والنظريات تفسر ما بين الإسلام كدين وكشريعة وكحضارة وما بين الديمقراطية كمنهج حكم من تناقضات وتوافقات. وكما نعلم فإن الشعوب العربية منذ ثورة تونس في 14 يناير 2011 أصبحت مركز الاهتمام لدى الرأي العام الدولي لسبب بسيط هو أن هذا الرأي العام فوجئ باندلاع الشرارة من تونس المسلمة وتفجر نهر الحريات من ينبوعه التونسي إلى كافة أرجاء المشرق والمغرب حتى لو تعثر فهو يسير في مجراه إلى مصب العودة للتاريخ. وهوما أنصفنا فيه المنصفون حين قال أحدهم بأن لبلادنا الحق في براءة الاختراع والسبب الثاني لوقع المفاجأة لدى المراقبين هو أن العديد من المستشرقين الغربيين الجدد أبناء فكر (برنارد لويس) طالما وضعوا للعالم العربي الإسلامي نظريات تفيد بأن الاستبداد يحمل جينات عربية إسلامية وأن العرب أهل تبعية وأعداء للحرية. بل إن كثيرا من العرب يؤيدون بهتانهم ويكتبون البحوث والدراسات للمراكز والجامعات يؤكدون فيها قواعد القنوط من العرب. وأنت تراهم اليوم بعد خيبة أملهم وانكسار حجتهم أمام نهر الحريات العربية الجارف يواصلون المؤامرات بأساليب أخرى غايتهم أن يظل العرب ذيولا وأذنابا لأسيادهم الغربيين، بل ربما تسللوا إلى مراكز السلطة تدعمهم جيوش نراها أولا نراها من أعوان المخابرات الغربية تبوأهم المناصب وتغدق عليهم المصداقية والنعمة وأذكر أنني منذ مدة شاهدت في برنامج تليفزيوني شهير بقناة الجزيرة، مقابلة بين "مفكرين اثنين" من المغرب العربي للجدل حول صدقية الانتخابات في بعض الدول العربية ومدى تعبيرها عن الرأي الحقيقي للشعوب وهو موضوع فيه اختلاف وفيه بالطبع اختلاف المتناقشين الاثنين والاختلاف مطلوب من قبل صاحب هذا البرنامج ويتحول أحيانا إلى خلاف مما لا يفسد للود قضية على كل حال حسب الحكمة العربية. وأنا لا أريد في هذا التعليق القصير أن أدلي برأيي بعد أن أدليت به مرات عديدة في نفس ذلك البرنامج وعلى نفس القناة، لكني أريد فقط التعبير عن أشد العجب من اعتقاد راسخ لدى أحد المتجادلين بأن الغربيين عموما والفرنسيين تحديدا يستحقون الديمقراطية وحقوق الإنسان لأنهم – كما قال هذا الرجل حرفيا – لديهم فطاحلة الفكر أمثال فولتير ومنتسكيووجون جاك روسو مهدوا للفكر الديمقراطي وأسسوا مدرسة التنوير ونظروا للدساتير الليبرالية، وأضاف المتحدث المتحمس لبرهانه: أين نحن العرب من هذا؟ للحقيقة قررت حينما سمعت هذا السؤال أن أساهم بقسطي المتواضع للجواب عليه توسما للخير في هذه الحوارات التي يجب أن تستمر عبر وسائل الإعلام ومنابر الثقافة. ولا أخفي مدى صدمتي وأنا أسمع من فم مثقف عربي نكرانا لكل التراث العربي الإسلامي في مجال الحريات واحترام العقد الرابط بين الحاكم والمحكوم وقد أضيع في خضم الرصيد العربي الممتد من المحيط إلى الخليج في هذا الباب فقط، أي الفكر السياسي العربي الإسلامي الزاخر كالبحر بعمالقة كبار تركوا للإنسانية كلها أهرامات من المعاجم وأمهات الكتب خلال خمسة عشر قرنا من الحضارة وخشية أن أضيع بين الكنوز الفكرية رأيت أن يقتصر كلامي على بلاد المتحدث نفسه تونس وعلى جزء يسير من إسهامها في إثراء الثقافة العربية والإسلامية والعالمية قبل قرون طويلة من العظماء الفرنسيين الذين ذكرهم الرجل واستشهد بفكرهم الثاقب لاستحقاق الديمقراطية دون العرب.. الذين نعتهم بكونهم أيتام مجد وناقصي حضارة. وتونس العربية هي التي أنجبت العلامة عبد الرحمن ابن خلدون صاحب كتاب المقدمة وفي هذا الكتاب كان العلامة هو أول من طالب الملوك بسن دستور واضح يحدد الحقوق والواجبات ويكون بين ولي الأمر وشعبه عقد سياسي ونظام للملك، مقترحا الميثاق المختوم بين الحاكم والمحكوم وتونس أيضا هي من أنجبت الإمام سحنون بن سعيد التنوخي الذي كان أول من قنن مبدأ استقلال القضاء حين رفض منصب القضاء الذي عرضه عليه الأمير محمد بن الأغلب فسأله الأمير عن سر رفضه فأجابه بقول خلده المؤرخون وهو: "أشترط أن أقاضي أهل بيتك وقرابتك وأعوانك فإن عليهم ظلامات للناس وأموالا لهم منذ زمن طويل حيث لم يجترئ عليهم من ولي القضاء قبلي"، فقال الأمير: "نعم لا تبدأ إلا بهم وأجر الحق على مفترق رأسي". وهذا المبدأ الذي ظهر اليوم خلال الثورات العربية مبدأ أساسي وهو مبدأ استقلال القضاء هو الذي يؤسس لدولة الحق وسيادة القانون والتفريق بين السلطات وكانت تونس سبَّاقة إليه بثمانية قرون قبل منتسكيو وفولتير! إن أفضل تحية نوجهها لليقظة الثقافية العربية هي أن نؤسسها على هويتها الحضارية ونعتز بأمجادنا ونرفع رؤوسنا بها عالية قبل أن نطالب غيرنا بالاعتراف بأفضالنا عليهم.. وهي أفضال حقيقية وموثقة. اللهم جنبنا العثرات والغفلات واهد أمتنا إلى طريقك المستقيم. كاتب تونسي [email protected]