15 سبتمبر 2025
تسجيلفي كل صيف؛ يتساءل الملايين من الطلبة العرب: أي كلية يلتحقون بها بعد الدراسة الثانوية؟ وأي مصير ينتظرهم بعد التخرج؟ ومن ثم، تنهال النصائح يمينًا ويسارًا، كاتمة في أغلبها روح المغامرة الفطرية وجموح أحلامهم في تلك القرارات المصيرية، لتذكّرهم بقساوة الواقع الاجتماعي والاقتصادي والفكري الذي نعيشه، والذي يرفض المغامرة ويرى أن الواقعية المادية هي الطريق "المضمون" للعمل والزواج، وتحديد كل قراراتك منذ ولادتك وإلى تعيين مكان مدفنك. في هذا الواقع وليس بغيره؛ وُلدتُ وتربيتُ في أسرة مصرية بسيطة، انهارت فيها أمي حزنًا حينما رفضت الالتحاق بكلية الصيدلة والزواج من قريبتي التي كانت ستساعدني للعمل في صيدلية بعد التخرج، لكي ألتحق بكلية العلوم قسم الفلك بجامعة القاهرة في رحلة مهنية مجهولة، وفي غياب وظيفة حقيقية تؤهلني لها دراستي للعلوم في عالمنا العربي. واليوم وبعد أكثر من عشرين عامًا من العمل في وكالة ناسا لأبحاث الفضاء بالولايات المتحدة، ومراكز بحثية مرموقة في جامعات كاليفورنيا وباريس؛ كشف لي طريق العلم والمعرفة أننا لم نأتِ إلى هذا الكوكب كي نكون نسخة من أجدادنا، وأننا لسنا هنا فقط لنعيش الواقع، بل - وهو الأهم - لكي نغيره. وليست الدعوة للتجربة الجريئة بدعوة للجنون أو التشبه بالغرب، بل هي دعوة للتعلم وتمثل التجربة وشجاعة خوضها جزءًا أساسيًا منها، فالقرار العاقل لا ينبع من عقل خائف. ولعل جذور الخوف لدى طلابنا في تقرير المصير المعرفي في عالمنا العربي، تنبع من ثقافة البحث عن ضمانات مهنية للنجاح عوضًا عن الاستعداد للمخاطرة والتأقلم مع المتغيرات، وهي صفات تغيب عن المنظومة التعليمية والتربوية التي يطغى عليها طابع الطاعة المطلقة، بدلًا من القدرة على التساؤل والتحليل والإقناع. أضف إلى ذلك الموروثات الاجتماعية الخاطئة عن وجود ما يسمى "كليات القمة"، وظهور التصنيف العالمي للجامعات؛ والتي جعلت كل همها تركيز الاختيار على مكان الدراسة أكثر من نوعها. وباختيار ما هو مقبول اجتماعيًا قبل ما هو مرغوب معرفيًا لدى الطالب يفقد العالم العربي عددًا كبيرًا من الموهوبين في مجالات عدة. في اكتشاف الفضاء عِبَر هامة لمجتمعنا العربي؛ فقد لا يعرف كثير من الطلبة العرب أن نِيل أرمسترونغ - وهو يقوم بخطواته الأولى على سطح القمر- كان طالبًا مسجلًا بالدراسات العليا بجامعة سوثرن كاليفورنيا، التي أشرُف بالعمل فيها وفي نفس كلية الهندسة التي تخرج هو منها. فلم يكن أول إنسان يمشي على القمر مجرد رائد فضاء، بل كان طالبًا أيضًا وحصل على درجته العلمية بعد أقل من عام من عودته إلى الأرض. ولم تكن حقبته في أواخر الستينيات من القرن الماضي -التي نجح فيها مشروع الفضاء "أبولو" بإنزال إنسان على القمر- فترةً مزدهرة أو مستقرة، بل على العكس كانت أشبه بما نعيشه اليوم في منطقتنا. فقد كانت الولايات المتحدة في ذروة خسارتها للحرب في فيتنام، واغتيل رئيسها جون كيندي المؤسس لمشروع الفضاء "أبولو"، واغتيلت أيضًا قيادات المجتمع المدني المؤثرة مثل دكتور كينغ الحاصل على جائزة نوبل للسلام ومالكوم إكس، وغيرهما ممن حاربوا العنصرية العرقية. وأبعد من ذلك؛ كان هناك أيضًا اتهام لوكالة ناسا بالفشل المتكرر وإهدار المال العام في المراحل الأولى من السباق مع مشروع الفضاء الروسي، وأُلقي باللائمة في كل أزمة على تعيين قيادات وباحثين بها من اللاجئين الألمان، الذين اتهِموا بالانتماء للنازية وبتسمية "ناسا" على اسم قريب من اسم الحزب "النازي". وكان كثير من القوميين في تلك الفترة يرون أن هؤلاء الأجانب ينفقون أموال الشعب الأميركي بدون أي عائد يذكر. وجاء نجاح مشروع الفضاء "أبولو" - بعد سنوات من التجارب، بفضل الصواريخ التي طورها العالم الألماني فون براون وفريق كبير من العلماء الألمان الذين هجروا الحرب- ليؤسس مبدأً جديدًا في المجتمع الأميركي هو أن المعرفة هي أساس الهوية والانتماء وليس أي شيء آخر. وفي ذلك درس مهم لمجتمعاتنا العربية وخاصة دول الخليج التي إذا ما استطاعت استيعاب المهاجرين الموهوبين وجذبهم إليها وتوطينهم، فسوف تبني نهضة حضارية تمتد غربًا إلى كل أنحاء الوطن العربي. وبالعودة إلى علم الفضاء؛ فإنه يُعرف بأنه العلم المختص باكتشاف الكواكب والأقمار والأجرام السماوية البعيدة بهدف فهم نشأة وتطور الكون، بما في ذلك المجرات والمجموعة الشمسية وكوكب الأرض. وهو بذلك علم أساسي لفهم التغيرات التي يمر بها كوكب الأرض، ومن دونه يصبح الإنسان غير قادر على التعامل مع ظواهر مثل التغير المناخي وشح المياه، ورصد المخاطر الطبيعية مثل الزلازل والبراكين والأعاصير وسقوط النيازك، ومثل تلك التي أدت إلى انقراض الديناصورات. عرف العلماء العرب حركة القمر بدقة وفهموا انتظامها، واحتسبوا الشهور القمرية وجعلوا منها أساس تقويمهم، واهتدوا بضوء القمر ومواقع النجوم للملاحة والسفر في الصحراء. ومن المثير للدهشة أن الحضارة التي أسست لهذا العلم أصبحت اليوم هي الأكثر نشرًا للمفاهيم الخاطئة المرتبطة به. يحتفل العالم بمرور خمسين عامًا على إنزال أول بَشري على القمر؛ يرى كثيرون منا أن الأمر مجرد أكذوبة سينمائية، بينما يردد آخرون قصصًا عن أن أحد رواد الفضاء سمع الأذان وهو على القمر فأشهر إسلامه حين عاد إلى الأرض. هذا بالإضافة إلى مبالغات مثل أن العرب هم من حددوا مكان النزول الأول على القمر، ناهيك عن الأخبار اليومية عن رواد الفضاء العرب الذين يحملون صور حكامهم إلى الفضاء، وأيضًا عمن يرون أن الأرض مسطحة أو أننا نستطيع مغادرتها أصلًا. أضف إلى كل ذلك التخبط السنوي الدائم في تحديد بداية شهر رمضان وعيد الفطر وبداية موسم الحج، وكأن حركة القمر المنتظمة قد تحولت إلى ما هو أشبه بحركة المرور في شوارعنا، لا يتفق اثنان في وصفها. والسؤال المطروح هو: لماذا يرتبط تفشي المفاهيم الخاطئة بعلم الفضاء أكثر من بقية العلوم الأخرى.. وهو العلم الذي أسسه العرب؟ ولماذا تراجع دور العلم في المجتمعات العربية على مر القرون الخمسة الماضية بعد فترة طويلة من الازدهار؟ ونستطيع تلخيص الإجابة في ثلاث نقاط مترابطة: الأولى؛ هي تعاقب حكم الطغاة الذي استبدل الحاكم القوي بسلاحه بمبدأ الحاكم الرشيد بعلمه، فكان هذا سببًا في غياب أهل العلم عن دوائر صنع القرارات الإستراتيجية الثانية؛ هي أنه في ظل غياب الحريات الفكرية الناتجة من السبب الأول، تُقدَّم الاكتشافات العلمية على أنها نتاج فكري غربي لا يمت بصلة للواقع العربي، فترى غالبية مجتمعاتنا تحتفي بحرارة بنجاح أبنائها في الخارج، وتبقى خجولة في محاربة الموروثات الخاطئة التي تعوق صناعة النجاح في الداخل.