03 نوفمبر 2025
تسجيلأمّا مظاهر الكذب المتفشية في الناس فمنها: نقل كل ما يسمع من أحاديثَ وأقاويلَ، والتحدث بها بغير تبصّر وتروّ ونظر، ودون تثبت وتحرّ عن صدق وصحة تلك الأقوال من كذبها وزيفها، وذلك بالرجوع إلى مصدرها إن أمكن، أو عرضها على العقل والواقع لتمحيصها، لكيلا يجعلَ المرء من نفسه بوقاً، لنشر وإذاعة ما يطرق سمعه من أكاذيب وأباطيل، وإلا فإنه سيوصم بصفة الكذب، وتلصق به معرّتها، قال عليه الصلاة والسلام:(كفى بالمرء كذباً، أن يحدث بكل ما سمع)، وقد نعى القرآن، على من كانت هذه حالته، قال تعالى:(إذ تلقَّوْنه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم)، انظر بلاغة قوله تعالى:(تلقونه بألسنتكم)، وليس بآذانكم، آلة حاسة السمع، كأن ليس ثّمَ زمنٌ عند أناسٍ بين تلقي الأخبار بالأذن، ثم التحدث بها باللسان، فبمجرد سماعهم أيّ قولٍ، سرعان ما يبادرون بالتحدث به ونشره، فصاروا بذلك كأنهم تلقوه بألسنتهم بدلاً من آذانهم، لانعدام الوقت عندهم بين تلقي الأخبار، والقول بها، فيكون بثهم لها، بلا حكمة عقلٍ، ولاخشية كذبٍ، وخوف حساب.ومنها، التحدث في ما ليس للمرء فيه علمٌ ولا دراية، فكثيرٌ من الناس، يخوض فيما لا يعلم، ويهرف بما لا يعرف، مدّعياً العلم والمعرفة، وهو ليس فيه غير الجهل والغفلة، وذلك ليُريَ الناس أنه متحدث لبقٌ، ومِنطيقٌ لَسِن، وأنه عالمٌ بكل حال، لا يُعييه جواب سؤال، وما هو إلا ثرثار هذّار، لا تجد عنده إلا الكذب والتدليس والخداع، ومن كان هذا دَيْدَنه، فهو كاذب كاذب، وإن لم يشعر بخزي كذبه، ويا ليته – يرحمه الله - يصمت أو يقول: لا أدري، فإن ذلك خيرٌ له، وكما قيل: (من قال لا أدري فقد أفتى)، وليحذرْ قول الله جل وعلا:(ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر كلُّ أولئك كان عنه مسئولا).ومنها، عدم الأمانة في نقل الرواية، والتصرف بها بغير التزام الدقة والنزاهة، إما بزيادة أو نقص، فيختلف من ثم معنى الحديث اختلافاً سافراً، يفضي إلى إحداث مشكلات، وإفساد علاقات.ومن مظاهر الكذب أيضاً، الكذب حين المزاح، من أجل الإضحاك، الشيء الذي يستهين به البعض ويستسهلونه، وهو لا يصدر إلا من مهانة النفس وصِغَرها، ولم يسمعوا بتوعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، لمن فعل ذلك بالويل، جاء في الحديث الشريف :(ويلٌ للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القومَ فيكذب، ويلٌ له، ويلٌ له)، وبيّن عليه الصلاة والسلام، ثواب من يدع الكذب مازحاً، في حديثٍ ذكر فيه أيضا ثواب تارك المِراء، وثواب من حَسُن خُلقه:(أنا زعيم ببيتٍ في رَبَض الجنة لمن ترك المراء، وإن كان محقا، وببيتٍ في وسط الجنة، لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسن خُلُقه)، والزعيم: أي الضامن، وربض الجنة: أدناها. وهل هنالك من يريد فوق هذا الجزاء، على ترك صفةٍ، هي في الأصل، تنافي المروءة وكرامة النفس؟.وكذلك منها، الحلف الكاذب، وهذا من أشنع وأفظع مظاهر الكذب عقوبة وجزاءً، الذي يحدث في الغالب عند البائعين، الذين ربما كذبوا عند البيع، من أجل إخفاء عيب، أو ستر نقص، في السلعة، أو كتم حقيقة قيمتها المستحقة، طمعاً في زيادة الكسب، الذي إن تحقق لهم، سيمحق الله بركته، روى البخاري في صحيحه، عن النبي عليه الصلاة والسلام:(ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم) وذكر منهم:(رجلٌ حلف على سلعةٍ لقد أَعْطى بها أكثر مما أَعْطى، وهو كاذب).وقد نزل قول الله تعالى:(إنّ الذين يشترون بعهدِ اللهِ وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاقَ لهم في الآخرة ولا يكلمهم اللهُ ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم)، في رجلٍ أقام سلعةً في السوق فحلفَ بالله: لقد أعطي بها ما لم يعطَ، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين.وهذا الجزاء المضاعف، لمن حلف على يمينٍ كاذبة، يكون سواءً لمن اقترفه في بيعٍ، أو في سواه، مما فيه جلب منفعة ونحوها، وإنما خُص البيع بالذكر، لأنه أكثر شيوعاً، ولتبعاته السيئة الناتجة عنه؛ لأن فيه غشا ظاهرا، وإضاعة حقوق، وفقد أمانة.وعلى المؤمن الفَطِن، أن يستشعر دائماً وأبداً قول الله تعالى:(ما يلفظُ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد)، اللهم طهِّر ألسنتنا من الكذب، واجعلنا من الصادقين، الذين يستوي باطنهم مع ظاهرهم.أقول في الختام بحسرة ولوعة:بقِيَ الذين إذا يقولوا يكذبوا ومضى الذين إذا يقولوا يَصدُقوا