15 سبتمبر 2025
تسجيلأعد المسلمون العدة للخروج إلى ملاقاة الروم في السنة التاسعة للهجرة، استجابة لأمر رسول الله، عليه الصلاة والسلام، الذي حثهم على التجهز والاستعداد، بعد أن علم أن الروم في الشمال قد جمعت قواها تبتغي الهجوم على المدينة، وكان ذلك في زمن اشتداد الصيف، واشتعال حره، فضلا عما أصيب به الناس من جَدْب وقحط، حتى كان من وجد منهم ظلا يقيه وَقْدة القيظ، وقوتا يكفيه لذعة الجوع، عدَّ نفسه في نعيم مقيم، لِما كان فيه القوم من وقت شدة وعسرة صادف تلك الدعوة إلى الخروج، ناهيك ببعد الشُّقة، وقوة العدو. مع هذه الأحوال الشديدة القاسية، هب المؤمنون ولبوا نداء الجهاد بأموالهم وأنفسهم وبذلوا ما استطاعوا بذله رجالا ونساءً، أغنياءَ وفقراءَ، كلّا على قدر طاقته، وجعلوا يجمعون الصدقات لعُدة الجيش، فمنهم من جاد بكل ماله كأبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ومنهم من جاد بنصف ماله كعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ومنهم من بذل الكثير الجزيل كعثمان بن عفان، رضي الله عنه... وغيرهم من المنفقين في سبيل الله، ومنهم من لم يستنكف عن تقديم القليل الضئيل مما يملكه، فقدم صاعا أو مُدّاً من تمر ونحوه، أما النساء فتصدقن بما معهن من ذهب وحُلي، حتى تأتى للمسلمين أن يخرجوا بجيش عظيم القوام، نهضوا به وقد كانوا في عسرة، فكان هو جيش العسرة. هذه هي حال المؤمنين الصادقين الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، ووثقت قلوبهم ولم يترددوا ويرتابوا، خلافا لما فعلت جماعة المنافقين الذين استساغوا التخلف عن أمر رسول الله، وكرهوا الخروج معه، فقعدوا مخذولين مع القاعدين، بعد أن جاءوا بأعذارٍ هم فيها من الكاذبين، ولم يتخلف سواهم إلا المعذَّرون الذين حبسهم ومنعهم عذر الفقر والضعف، وهم يودون أن يخرجوا لولا أنهم لا يجدون ما ينفقون، وما معهم غير الحزن والدمع، وإلا ثلاثة معروفون تخلفوا أيضا لم يكن لهم عذر ولا يُتهم أحد منهم في إسلامه وإيمانه، هم الذين ابتلاهم الله من بعدُ ابتلاءً شديداً حتى تابوا، وأنزل الله فيهم قرآنا يُتلى إلى يوم الدين، وإلا رجل آخر تخلف ولكن كان له شأنٌ أيُّ شأن، يقال له أبو خَيثمة، هو مدار هذه القصة. كان أبو خيثمة مالك بن قيس من أغنياء الأنصار، أنعم الله عليه في حاله ونفسه، أما الإنعام عليه في حاله فقد كان له بستان، وافر الظلال، يانع الثمار، جعل لنفسه فيه عريشين، وأحلَّ في كل عريش منهما زوجاً حسناءَ، كانت كل واحدة منهما مقيمةً على أمره، ملبية حاجته، لا تدخران وسعا في إسعاده ورعاية شؤونه، وبالجملة فهو في حالته المادية في عيشة راضية هانئة، كفلت له رخاء الحياة، وكل أولئك من رزق الله الكريم ذي الفضل العظيم. أما إنعام الله عليه في نفسه، وهي النعمة الكبرى، التي لا تضاهيها نعمة، فإن لهذا خبرا فيه كل العبرة والعظة لأولي الضمائر والقلوب. لما خرج جيش المسلمين في لواء رسول الله، وضربوا في الأرض باتجاه تبوك، أوى أبو خيثمة إلى بيته نهاراً، حيث بستانه الظليل، فوجد امرأتاه هيأتا داره بحيث قامت كلٌّ منهما بإبراد الماء، وإعداد الطعام، وتزيين الدار، حتى لم يعد هناك مزيد على ما فعلتا، وليس ثمة نقص، ولكن أبا خيثمة ما إن وَلَج وتجاوز عتبة الباب، حتى أحس بانقباض في صدره، وضيق في نفسه، كأنما رأى ما يسوء ويحزن لا ما يسر ويفرح، بل كأنه رأى شرا يؤذيه ويعيبه ويجلب عليه العار، تُرى ما مرجع ذلك وما سببه؟ إن صوت ضميره صرخ في نفسه، الضمير الحي المفعم بالإيمان، فأيقظ إحساسه وشعوره، فتنبه الإحساس الذي لم يمت، والشعور الذي لم يتبلد، وأفٍ لموت الإحساس، وتبلد الشعور، فما ذلك إلا بلاء وبيل على بني الإنسان، لا يصاب أحد منهم بمثل المصيبة به، ولا تكون عليهم مصيبة أشد منها، فإن ميّت الإحساس وبليد الشعور يكون مصدر شرور في الحياة حتى ليُخيّلُ أنه ما خُلق إلا لفسادٍ أريد بهذا الكون، ولسوء أريد بساكنيه، إذ هو ينفصل بطبيعته ويبعد عن أن يكون إنسانا سوِيّا، ويتصل ويقرب إلى أن يكون شيطانا غوِيّا. بعد ذلك الإحساس الذي طاف بأبي خيثمة، جعل يقلب نظره في مسكنه وفي زوجيه وما صنعتا له، وهما تنظران إليه حائرتين حتى ارتابتا وقالت إحداهما: ما بالك يا أبا خيثمة، هل فرطنا في شيء، أو قصّرنا في أمر؟ وأبو خيثمة جامد في محله لا يرد جوابا، ثم إنه قال:(رسول الله في الحر والريح، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام وماء مهيأ، في ماله مقيم، ما هذا بالنَّصَف، والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله، فهيّئا لي زادا ورَكوبة)، ففعلتا من فورهما ما طلبه منهما، ثم خرج مسرعا في اثر رسول الله، حتى كأن شيئا وراءه يجدُّ في طلبه فهو يريد الخلاص منه والفرار، وما زال كذلك حتى أدرك القوم حيث نزلوا في تبوك، وحينما اقترب من معسكر الجيش، رأى الناس شخصا آتيا من بعيد، فقالوا: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول الله:(كن أبا خيثمة)، فقالوا: