10 سبتمبر 2025
تسجيلالمسافة بين مدينة غلاسغو ومدينة أدنبره عاصمة اسكتلندا لا تزيد على أربعين دقيقة بسيارة تعبانة، ولكن ما أن تصل إلى أدنبره حتى تدرك أن المسافة بينهما كالمسافة بين العالم العربي والعلوم الحديثة، فأدنبره مدينة بارعة الجمال. وهي بأكملها عبارة عن متحف ضخم تشم فيه رائحة نضال الشعب الأسكتلندي للانعتاق من ني ر الاستعمار الانجليزي على مدى قرون طوال، وفيها تلتحم العراقة بالخضرة والماء (لا أجزم بأمر حسن الوجوه فيها)، فتكون النتيجة ملحمة جمالية مبهرة. وربما سمع القارئ بأدنبره بوصفها مسقط رأس النعجة دوللي وهي أول حيوان تم استنساخه في التاريخ. وسألت عن تلك النعجة خلال زيارتي الأخيرة للمدينة، فعرَّضت نفسي للسخرية لأنني لم أسمع بوفاتها ولم أقم بواجب العزاء. المهم أن أي عربي يزعم أنه يزور بريطانيا للسياحة والترويح عن النفس ثم يتسكع في لندن دون غيرها، إما «مستهبل» أو يخدع نفسه أو نواياه غير شريفة!! فمن يريد السياحة والترويح عن النفس بالغزل عليه بمقاطعة البحيرات (ليك ديستريكت) ثم أدنبره. تتغزل في إيه وللا إيه؟ تصبح عينك زائغة، وتظل تتلفت حتى تصاب عيناك بشد عضلي. لا تجعل خيالك يودي ويجيب ويروح لبعيد، فأنا أتكلم عن التغزل في الطبيعة. والمعمار الذي في غاية الابهار، وفي صيف كل عام تستضيف أدنبره مهرجاناً ثقافياً رائعاً يجعل كل زاوية في قلبها تنبض بالجمال والموسيقى المحلية الرائعة - موسيقى القِرَب التي يعزفها رجال قليلو الحياء يرتدون تنانير (اسكيرتات) لا تغطي الركبة، ولكن ما أن تتحرك الأصابع على مزامير القربة هبوطاً وصعوداً حتى يتغلغل سحر اسكتلندا وخصوصيتها إلى خلاياك. لدينا منذ نحو قرن فرقة لموسيقى القرب تابعة للجيش السوداني وكانت في الأصل تابعة للفرقة الأسكتلندية المرابطة في السودان خلال الحكم البريطاني، وأفضل فرقة لتلك الموسيقى خارج إسكتلندا في عالم اليوم هي تلك التي تتبع لجيش سلطنة عمان. كنت مأخوذا بجمال قلعة أدنبره الشهيرة والحديقة البديعة المحيطة بها عندما تدفق الآلاف صوبها في طوابير منتظمة، ولا شيء يعكنن مزاجي مثل الطوابير والانتظار، مما يؤكد أنني أحمل جينات عربية كثيرة رغم أنني نوبي الأصل واللسان، وكانوا يصطفون لحضور ما قالوا إنه ال»تاتو»، وضحكت لبلاهتهم لأن التاتو هو الوشم، وما من شيء يعكنني مثل الوشم على جسم انسان، أو قرط (حَلَق) في أُذن رجل! أنا لا أفهم لماذا تثقب امرأة أذنها وتعرض نفسها للآلام والالتهابات من أجل وضع حلقة في أذنها، فكيف أقبل ذاك من رجل يفترض أن يعرف أن لكل جنس زينته الخاصة؟ وهكذا كان مفهوماً أن أسأل رفاقي السودانيين المقيمين في أدنبره عن سر بلاهة الاسكتلنديين الذين يصطف الآلاف منهم من أجل التاتو، فقالوا لي: أنت الأبله، لأنه من المعروف عالمياً أن التاتو هو عرض عسكري موسيقي سنوي تشتهر به أدنبره، وأن تلك الآلاف أتت لتتفرج على جيش عريق ذي تقاليد راسخة ولن أنسى ما حييت كيف أن التاتو تغلغل الى وجداني بدرجة أنني صرت اسكتلندي الهوى، وزرت الإقليم عدة مرات بعد ان اكتشفت ان الاسكتلنديين ودودون وبسطاء بعكس الإنجليز الذين كلما عاشرتهم ازددت نفورا منهم، ثم كان ما كان من أمر تصويت البريطانيين لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي مؤخرا، فصار من المرجح أن يصوت الاسكتلنديون لصالح الانفصال عن بريطانيا، وكسوداني لديه خبرة واسعة في تشكيل حركات «التحرير»، فإنني على استعداد لمساعدة اسكتلندا على الانفصال مقابل مكافأة رمزية هي الفوز بجواز سفر اسكتلندي لأنني بصراحة «ملّيت التحرير»