17 سبتمبر 2025

تسجيل

مركزية الإنسان في الإصلاح والنهضة (6)

16 يناير 2015

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); ساقية الجهلإذا امتنعت النخبة في المجتمعات المتأخرة عن نشر الوعي للأسباب التي ذكرنا آنفاً، فإن المجتمع سيظل يدور في دورة من الجهل تشبه ما عرفناه في الثقافة الشعبية بساقية جحا. فقلال الماء تغرف الماء من النهر لتعيده إلى النهر. المجتمع الذي ينتشر فيه الجهل يفعل ذات الشيء، فكل إنسان في المجتمع يقضي القسم الأول من حياته متلقياً للمعارف كتلك القلال الغارفة، ثم القسم الأخير من حياته معطياً كتلك القلال الصابّة، ومنطقي أن يعطي المرء ما يتلقى، فالطفل الذي ينشأ في مجتمع متأخر سيتلقى معارفه من والديه ومن النظام التعليمي ومن مجتمعه المحيط، وحيث إن المجتمع متأخر فالمعارف التي سيتلقاها من كل هؤلاء لن تكون متقدمة ولا منيرة، وعندما يرشد الطفل ويتحول إلى حياة العطاء فيصبح والداً أو معلماً أو فقيهاً أو اقتصادياً أو سياسياً، سيعطي المجتمع من جنس ما منحه من قبل، هذه هي دورة الجهل الخبيثة.الخروج من دورة الجهل1. الظرف التاريخي: يذكر التاريخ أن بعض الشعوب تمكنت من النهوض والتقدم عندما هيأ لها التاريخ ظروفاً مواتية واستطاع إنسانها استغلال تلك الظروف لإحداث النهضة. فالحضارة الأولى قامت، بحسب جاريد دايموند في كتابه الشهير "بنادق، جراثيم، وفولاذ"، عندما مرّ الصيادون الأوائل بمنطقة الهلال الخصيب والتي كانت – كما يوحي اسمها – ذات أرض خصبة واكتشفوا هناك الزراعة فاستقروا بها وتمكنوا من استئناس الحيوان، فنشأت بذلك أول المجتمعات المستقرة، أول الحضارات. كذلك تشير المراجع التاريخية إلى أن بعض الشعوب حظيت في فترة تاريخية معينة، ومن قبيل الصدفة فقط، بعدد كبير من المواهب الفذّة كانت سبباً في نهضة شاملة. قالوا ذلك عن اليونان في عصرها الذهبي وقالوه عن بداية النهضة الأوروبية في فلورنسا في القرن الرابع عشر الميلادي بوجود أسماء كمايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وغيرهم.هناك ظروف تاريخية أخرى يذكر المؤرخون أنها ربما كانت سبباً في إحداث نهضات لبعض الأمم، مثال ذلك الموقع الجغرافي لبعض المدن الساحلية والتي تزداد أهميتها في فترة ما فتصبح ملتقى تجارياً عالمياً مهماً كمينائي الإسكندرية في العهد الروماني أو فلورنسا في عهد التنوير الأوروبي.وأخيراً تنسب بعض التحليلات أسباب النهضة إلى توفر الوسائل كدور اختراع المطبعة في عهد التنوير أو دور حركة الترجمة في الحضارة الإسلامية خصوصاً في العصر العباسي وفي الأندلس. كل هذه التحليلات هي اجتهادات المؤرخين لفهم أسباب النهضات المختلفة في إطار ظرفي، أي الظروف التاريخية أو الجغرافية التي ساعدت أمة من الأمم على النهوض ولكن لا يوجد من هذه الدراسات ما يشير إلى هامشية دور الإنسان في النهضة، بل هي محاولات لفهم الظروف التي قد تشكل البيئة الأنسب لاستثمار الجهد الإنساني في النهوض.2. الخروج الثوري.. حركة التنوير والنهضةالشكل الآخر من أشكال الخروج من دورة التخلف هو ذلك الخروج الذي يكون بعمل منظم وقاصد، كأنه مشروع للنهضة يقوم به قائد ملهم أو نخبة طموحة أو مزيج من الاثنين مع تهيئة ظرفية تساعد على تعجيل الخروج. هذا النوع من الخروج استفاد من أدوات العصر الحديث كتطور وسائل الاتصال والنشر والحركة بالإضافة إلى رسوخ قيم ضرورية كالحريات وحسن التعايش بين المختلفين وتطور المجتمعات المدنية ومؤسساتها بشكل عام. كل ذلك ساعد على تحول المجتمعات من التخلف إلى الحضارة في غضون ثلاثة أو أربعة عقود فقط. وهو ما شهدناه في ألمانيا واليابان ما بعد الحرب وكوريا الجنوبية ثم نمور آسيا ونهضة أمريكا اللاتينية. وهي نهضات لا تقتصر فقط على التحول إلى دول صناعية بل هي حركة تغيير شاملة في المجتمع تشمل تحسن مستوى دخل الفرد ومستوى التعليم والوعي إضافة إلى نمط الإنتاج والعلاقات الاجتماعية. لم تعد الشعوب بعد ثورة التكنولوجيا والاتصالات والعولمة تحتاج قروناً طويلة لإحداث النهضة، كما أن النهضة المنشودة لم تعد كتلك القفزات الإنسانية الكبرى كالرسالات السماوية أو حتى اكتشاف الكهرباء، بل تبسط الأمر ليعني ذلك النموذج الحضاري المعاصر والذي ركيزته الأساسية هي كفالة العيش الكريم للناس.إذا أردنا إحداث النهضة في بلادنا بفعل قاصد – مشروع نهضوي – دون انتظار للنهضة التي يأتي بها الظرف التاريخي، فلابد من قيام حركة تنويرية عامة تقود البلاد للخروج من دورة الجهل والتأخر إلى الوعي والتقدم. هذه الحركة قد يقودها قائد ملهم أو جماعة منظمة أو مجموعة منظمات مجتمعية تشكل تياراً عاماً في المجتمع، قد تكون مشروعاً سياسياً لحزب طموح أو حالة ثورية لجيل متمرد على المسلمات القديمة، وقد تأخذ دون ذلك أشكالاً من الحراك الاجتماعي لا نتصورها الآن ولكن تؤتي ذات الثمار. ولكن أياً كان شكل هذا الحراك الاجتماعي فلابد له كي يتمكن من الاستمرار والنمو، لابد له من تهيئة، لابد من مساعدته بإزالة العوائق من أمامه قدر الإمكان على طريقة اللعبة الأمريكية الشهيرة. وأنفع تهيئة يمكن أن تدعم حراك الإصلاح والنهضة هي تحويل النخبة من فئة عاملة ضد الوعي على ما ذكرنا سابقاً، إلى فئة عاملة له، وذلك ليس استناداً بالضرورة على وازع أخلاقي أو خيري – وهو دائماً مرحب به عندما يوجد – وإنما على حافز بنفع يعود على النخبة من نشر الوعي عوضاً عن النفع الذي عاد عليها من كبته.