13 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); قلما ينجح أي زعيم في التأسيس لنهج في السياسة الخارجية يتسم بدرجة عالية من التيقن والثبات والتوازن في إقليم ملتهب ومتقلب كما هو الحال في إقليمنا العربي. والحق أن تسارع الأحداث وكثرتها خلق حالة من الضبابية والغموض الإستراتيجي صعّبت من عملية صناعة القرار في السياسة الخارجية لكثير من دول هذا الإقليم، ولعل قطر هي الدولة التي شكلت الاستثناء إذ تمكنت القيادة القطرية التي تميزت بما يسمى بفن القيادة (statecraft) وبالقدرة على مواءمة الأهداف مع الوسائل المتاحة من قيادة السفينة إلى بر الأمان، فالاشتباك الإيجابي للسياسة الخارجية القطرية وتوظيفها للأدوات التي تمتلكها بحنكة عز نظيرها مكّنها من تعظيم مكانة وهيبة الدولة بما يخدم القضايا العربية المركزية.في كتابه المعنون "خطاب أمة.. قراءة في سياسة قطر الخارجية خلال مواقف سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر في الأمم المتحدة ومجلس الأمن"، والصادر للتو، رصد مؤلف الكتاب الأستاذ جابر الحرمي رئيس تحرير صحيفة الشرق القطرية ملامح السياسة الخارجية القطرية من خلال تسليط الضوء على خطابين لأمير قطر ألقاهما في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر من العام الماضي وفي مجلس الأمن. وفي الخطابين أكد أمير قطر على ثوابت السياسة القطرية وعلى مواقف قطر الثابتة إزاء مختلف القضايا الإقليمية وهي مواقف أقل ما يمكن القول عنها إنها تستند إلى فهم دور قطر وإمكاناتها ورؤيتها لما يجب أن يكون عليه الإقليم، وربما قطر في ذلك تكون قد تجاوزت السمة التقليدية في السياسة الخارجية للدول العربية والتي تتمحور حول ردات الفعل لما يجري، فقطر بقيادة الأمير تميم امتلكت زمام المبادرة دائما ولا تتردد في انتهاج خط سياسي واضح يعبر عن مصالح قطر ومصالح الإقليم بعيدا عن رغبات وتمنيات دول أخرى تعبث في الإقليم أو لنقل تحاول إطالة الصراعات لتعزيز مصالحها.كتاب الأستاذ جابر الحرمي يرصد مواقف قطر في السنوات الأخيرة ويبرهن على أن هناك حالة من الثبات في خضم الضبابية السائدة وأن السبب الرئيسي في نجاح السياسة الخارجية هو وضوح رؤية القيادة القطرية في وقت افتقد فيه الكثيرون لمثل هذا الوضوح وفي وقت أصبح فيه غياب الوضوح مكلفا على الدولة وعلى الإقليم بشكل عام. وبهذا المعنى، يمكن القول إن السياسة الخارجية القطرية قائمة على رصد دقيق للتحولات الكبيرة في البيئة الإستراتيجية في المنطقة ولأفول ما أسماه ريتشادر هاس بـ "اللحظة الأمريكية في الشرق الأوسط" وما رافق ذلك من بروز لاعبين إقليميين يبحثون عن التأثير والنفوذ والدور، فنمط العلاقات الدولية في الشرق الأوسط لم يعد كما كان وهذا ما دفع القيادة القطرية على اجتراح نهج وطني وقومي يتناسب مع إمكاناتها بغية التأثير.الراهن أن الوضع لم يعد مقتصرا على التحولات الإستراتيجية فقط، فهناك تحول في الوعي لدى الشعوب، وفي هذا السياق نشير إلى أنه قبل سبع سنوات تقريبا صدر كتاب للإستراتيجي الأمريكي ومستشار الأمن القومي الأسبق زبغينيو برجنسكي تحدث فيه عن الصحوة السياسية العالمية، وفي كتابه نبوءة تحققت جزئيا تتعلق بحتمية تمكين الشعوب وبخاصة في ظل ثورة الاتصالات المتسارعة، وفي الكتاب وجه برجنسكي نصيحة للإدارة الأمريكية للانحياز لخيارات الشعوب لأن الشعوب ستبحث عن الكرامة الإنسانية والتي أصبحت متأصلة في المطالب الشعبية في الأقاليم المختلفة. وبعد نشر الكتاب بسنوات قليلة هبت الشعوب العربية بحثا عن الحرية والعدالة والكرامة.ويؤكد جابر الحرمي في كتابه أن قطر انحازت منذ البداية لهذه الصحوة السياسية التي أخذت شكل الربيع العربي، ففي كل دول الربيع العربي وقفت القيادة القطرية بكل وضوح ومن دون مواربة مع خيارات الشعوب، فالقيادة القطرية تكون بذلك الوحيدة التي خلقت حالة من التماهي بين مصالحها ومصالح الشعوب، واستمرت قطر بهذه السياسة الجريئة والواضحة رغم انطلاق قوى الثورة المضادة لإحداث انتكاسة ستكون لها نتائج لا يحمد عقباها في قادم الأيام.صحيح أن قطر ليست دولة مترامية الأطراف، وهي بهذا المعنى دولة صغيرة، لكنها كسرت الصورة النمطية عن الدول الصغيرة التي عادة ما تتبع دولة أكبر، فالقيادة القطرية انتهجت خطا تم صوغه بانسجام مع رؤية القيادة وبمعزل عن اللاعبين الإقليميين والدوليين الرئيسيين واشتبكت مع الجميع على قاعدة واضحة مثلت علامة فارقة في السياسة الخارجية. وأصبح هذا الخط بمثابة حجر الأساس في سياسة قطر الخارجية الأمر الذي أكد عليه الكتاب.طبعا لا يمكن الإحاطة بكل الجوانب المهمة التي عالجها الكتاب، فالأستاذ جابر الحرمي قدم بأسلوب سلس ومشوق كل القضايا التي عالجتها السياسة الخارجية القطرية والحلول المطروحة، فالخارجية القطرية خرجت من إطار البكائية الذي ميّز الدبلوماسية العربية لعقود وانتقلت من خلال اشتباكها مع العالم إلى مرحلة اقتراح الحلول المتوازنة، وأحسن جابر الحرمي صنعا عندما ضم إلى كتابه شهادات من كبار الساسة والقادة مثل رئيس وزراء تركيا أحمد داود أوغلو ونائب الرئيس العراقي السابق طارق الهاشمي وكذلك رئيس الوزراء الفلسطيني السابق إسماعيل هنية ورئيس الوزراء السوري السابق رياض حجاب، وبالفعل ثمّن هؤلاء المساهمة الإيجابية لقطر في الإقليم.الفكرة الرئيسية التي يمكن استنتاجها من كتاب الأستاذ جابر الحرمي هي أنه ورغم هيمنة حالة من عدم التيقن والخوف من المجهول، مضت القيادة القطرية في سياسة خارجية عكست رؤية عميقة، ولعل القيادة القطرية وقدرتها على توظيف أدواتها بشكل فعّال هي من صنع الفرق. وفي الختام نشير إلى عنوان الكتاب "خطاب أمة" إذ يعكس دلالات واضحة تشير إلى أن قطر تبنت مطالب تعكس تطلعات الأمة العربية وليس فقط الشعب القطري.