15 سبتمبر 2025

تسجيل

خطاب الأسد يوم الأحد خرج ولم يعد

16 يناير 2013

كان الجنرال ديغول الزعيم الفرنسي يقول إبان المفاوضات من أجل استقلال الجزائر عام 1958 بأن لا سياسة ذات جدوى خارج الواقع ولا تقرأه القراءة الصحيحة. وكان الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسن يقول إبان المفاوضات الأمريكية الفيتنامية لإنهاء حرب فيتنام عام 1972 وإيقاف العدوان الأمريكي على شعب مقاوم وبطل: إن السياسة هي فن التفاوض مع الواقع. وأردت بهذه الحكم أن أقدم لموضوع المأساة السورية التي طالت وأذكر بأن جميع المتعاملين مع الملف السوري أكدوا بعد استماعهم لخطاب الأسد يوم الأحد بأن الرئيس السوري خرج عن الواقع ولم يعد ومن بين هؤلاء على الأقل ثلاثة رجال لهم بالطبع مصالح ولبعضهم مبادئ اتفقوا دون أن يتشاوروا بأن الأسد وصل بالقضية السورية إلى درجة الخروج عن الواقع أي الدخول بها في نفق الوهم. وهؤلاء هم الرئيس أوباما والمبعوث العربي والأممي الأخضر الإبراهيمي والأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي. وهذه المرحلة التي بلغتها المأساة السورية لها أسباب عديدة منها ما يصر على نعته بشار بالمؤامرة الإقليمية والدولية على سوريا. ولنفترض جدلا بأن هناك مؤامرة وأن هناك متآمرين ضد النظام السوري فمجرد عجز النظام عن إحباط المؤامرة على مدى عامين والتضحية بستين ألف مواطن سوري من أجل إحباط المؤامرة هو في حد ذاته سبب وجيه لاستقالة الرئيس وتفكيك نظامه وتسليم شؤون سوريا لسوريين آخرين يستطيعون ربما إحباط المؤامرة إن وجدت. ثم إن مؤامرة بهذا الحجم وصل فيها المعارضون والمسلحون إلى ضواحي دمشق وربما في قلبها واحتلوا مطارات ومراكز أمنية وثكنات عسكرية لا بد أن نتفق على تغيير مسماها لأنها لم تعد مؤامرة وإنما أصبحت ثورة على الأقل بمفهوم العلوم السياسية ولم يستطع النظام التصدي لها فاتسع فضاؤها وكثر مؤيدوها حتى أولئك السوريين الذين لا انتماء سياسيا لهم لمجرد أن حياتهم أصبحت مستحيلة ولا خيار أمامهم سوى الموت أو الهروب إلى بلدان الحدود حين أدركوا أن الجحيم الذي تحدث عنه الأخضر الإبراهيمي بدأ يفتح أبوابه ليلتهم الأخضر (ليس الإبراهيمي) واليابس وأن لا بوادر للقبول بحل عرضه بشار الأسد يوم الأحد واستثنى منه معارضي بقائه على رأس الدولة في مشهد يذكر جيلي بخطاب هتلر في أوبرا برلين عام 1944 وبخطاب شاوشسكو في ساحة بوخارست عام 1989 وبخطاب صدام في ساحة الفردوس ببغداد عام 2003 وخطاب العقيد في باب العزيزية عام 2011 وبخطاب (فاتكم القطار) في صنعاء وخطاب (فهمتكم) في تونس أيضا عام 2011. الغريب أن كل الذين قرب أوان سقوطهم المدوي انتفضوا انتفاضة أخيرة مدوية هي الأخرى وظلت أصداء خطبهم تتردد على مسامع التاريخ. مهما تكن مواقف العرب والعالم ومهما تكن مصالح الجميع إزاء سوريا اليوم فإن القرار بدأ يخرج من أيدي السوريين حكما ومعارضة لينتقل إلى الساحة الحمراء في موسكو وإلى ساحة (تيان أن مان) في بيكين وإلى البيت الأبيض وذلك من خلال اللاعبين الإقليميين وبألسنتهم وأيديهم أمثال تركيا وإيران والدول العربية ثم إن الحالة العراقية وهي على تخوم وحدود سوريا لا تبعث على بزوغ نور في نهاية النفق بل ستفاقم الأزمة الإقليمية وتسعى إلى تدويلها أحب السوريون أم كرهوا فنحن العرب نعيش في عالم متشابك المصالح مترابط الهزات لم ينجح المسلمون في أن تكون لهم فيه كلمة واحدة بينما تشكلت حولنا تكتلات عملاقة قوية تنسق مواقفها وتنطق بلسان واحد وتعمل بالطبع على تفكيك صلاتنا وتقسيم أشلائنا وإنهاك قوانا. إنه العالم الذي تغير وأنها لعبة الأمم التي تبدلت قواعدها ما عدا نحن العرب ظللنا نحمل صخرة سيزيف السورية نصعد بها الجبل وننزل وهي فوق أكتافنا وعلى ظهورنا والعالم يرصد عذابنا ويسجل عجزنا ولا يعبأ بمواقفنا. اليوم سيضع الأخضر الإبراهيمي كيس الرمل من على ظهره لأنه أثقل من أن يحمله وسيط عربي وأممي مثلما فعل قبله السيد كوفي عنان ولعل المبادرة القادمة ستكون للسيد راسموسن (الأمين العام لحلف شمال الأطلسي) وبالطبع أيضا للسيد بوتين ليتحول الملف العربي إلى ملف يدشن الحرب الباردة الجديدة التي لا تقيم وزنا إلا للأقوياء والمدججين بالردع النووي على حساب الشعوب المستضعفة البائسة والتي منها اليوم مع الأسف الشعب السوري بستين ألف ضحية ومليوني مهجر على الحدود وآلاف البراميل المتفجرة والصواريخ والقذائف والقنابل ونسف المدن وتدمير العمران والإنسان... ولكن اليوم فإن أقرب المبادرات للمنطق وأقلها خسائر وأكثرها ميلا للرشد والحكمة وقبول كل الأطراف هي تلك التي تنادي بقوة عربية لإقرار الأمن وإنقاذ حياة المدنيين العزل والفصل المؤقت بين أدوات القتل والتدمير إلى حين تهب العواصم البعيدة (واشنطن وموسكو) والعواصم القريبة (تل أبيب وأنقرة وطهران) لتتفق على حد أدنى مؤقت لحقن الدماء قبل الوصول إلى حل سياسي فشل بشار والهاتفون بحياته في دار الأوبرا بدمشق في اقتراحه وتسويقه لأنه لم يعد ممكنا بعد الهزات العنيفة التي عاشها العرب أن نجد حلا بهتاف (بالروح والدم نفديك) فهذا الهتاف طالما سمعناه في بغداد والقاهرة وتونس وطرابلس وصنعاء... كما طالما سمعنا عبارات الجرذان والإرهابيين والمزاطيل والأيدي الخفية...خارج الواقع فالواقع صخرة صماء صلبة يتكسر عليها رأس الوهم. ولله الأمر من قبل ومن بعد.