13 سبتمبر 2025
تسجيلغيرت الأزمة المالية العالمية الكثير من المفاهيم التي كانت سائدة، بل إنها حركت العديد من الثوابت التي كانت تعتبر بمثابة قوانين غير مكتوبة، ففي العقود القليلة الماضية لم تقف الشركات الاستثمارية ورجال الأعمال طويلا أمام خياراتهم الاستثمارية من الناحية الجغرافية، فالولايات المتحدة كانت الخيار الأمثل والأضمن لهؤلاء المستثمرين، فالسوق الأمريكية كانت حافلة بفرص الاستثمار النادرة والتي تدر عوائد مجزية، مما يعطيها الأولوية على غيرها من البلدان. ومع أن أوروبا الغربية ومن ثم بلدان شرق آسيا استحوذت على نسب مهمة من الاستثمارات الأجنبية، وبالأخص العربية في السابق، إلا أن الولايات المتحدة ظلت النجم الساطع في سماء خريطة العالم الاستثمارية. ويبدو أن عملية الاستقطاب الاستثمارية السابقة هذه حملت في طياتها الكثير من المضاربات والتلاعب بالمشتقات المالية التي لا تستند على أسس اقتصادية أو مالية علمية، مما أدى إلى انهيارها بسرعة كبيرة ليتكبد المستثمرون الأمريكيون والأجانب مبالغ طائلة بسبب تبخر استثماراتهم في السوق الأميركية. على النقيض من ذلك بقيت الاستثمارات الأجنبية في أوروبا الغربية وآسيا في مأمن نسبيا من لعبة المشتقات المالية، وذلك بسبب الأنظمة والقوانين الأوروبية التي تحد كثيرا من عمليات التلاعب وتضخيم الأصول دون أسس مادية. لذلك نرى أن معظم الخسائر الأجنبية، وبالأخص العربية تركزت في السوق الأميركية مع بداية انهيار بنك "ليمان براذرز" وما تلاه من انهيارات متتالية، يضاف إليها التراجع الكبير في قيمة العملة الأميركية والذي فاقم من حجم هذه الخسائر. مجمل هذه التطورات المختصرة وهذه التجربة شديدة المرارة للمستثمرين يفترض أن تؤدي إلى القيام بمراجعة شاملة للاستثمارات الأجنبية والعربية حول العالم، فالسوق الأميركية لم تعد السوق المثالية للاستثمارات الأجنبية، خصوصا وأن استمرار عملية طبع الدولار مستمرة دون استنادها إلى أسس اقتصادية، مما سيترتب عليها عواقب اقتصادية ومالية وخيمة في المستقبل. لذلك تبقى أوروبا رغم التعثر المؤقت "لليورو" وكذلك بلدان شرق آسيا، وبالأخص الصين والهند، بالإضافة إلى البرازيل وروسيا أسواق استقطاب آمنة للاستثمارات الأجنبية، وذلك بفضل ما تتمتع به من أنظمة وقوانين يراعى فيها إدارة هذه الاستثمارات وفق أسس صحيحة وبعيدة عن المضاربات الضارة وتضخيم الأصول بصورة مبالغ فيها. وبشكل عام ربما تكون العديد من الجهات الاستثمارية في العالم، بما فيها الصناديق الاستثمارية قد أدركت هذه الحقيقة، حيث يلاحظ حركة تدوير للاستثمارات العالمية مع التركيز على أوروبا وشرق آسيا، مما يعني إعادة رسم الخريطة الاستثمارية للعالم في السنوات القادمة. وإذا ما أخذنا على سبيل المثال استثمارات الصندوق السيادي لدولة قطر "جهاز قطر للاستثمار" لعام 2010 والذي يعتبر أحد أجهزة الاستثمار الناجحة في العالم، فإننا سنجد أنه قام باستثمار 21.6 مليار دولار في الأسواق العالمية، منها أكثر من 40% في أوروبا و13% في الصين و4% في السعودية و3% فقط في الولايات المتحدة و2.3% في روسيا الاتحادية. ويعد ذلك بمثابة استخلاصا لأحد دروس الأزمة المالية العالمية والتي سيترتب عليها التأسيس لعلاقات اقتصادية دولية جديدة متعددة الأقطاب والتي ستجد لها انعكاسات مهمة في المجالات السياسية والاستراتيجية. وتزامنا مع ذلك يلاحظ تكثيف الاستثمارات الداخلية للبلدان الغنية في العالم، بما فيها البلدان المصدرة للنفط، حيث يعتبر ذلك توجها صحيحا وذا أبعاد تنموية ستساهم في بناء قاعدة إنتاجية ستؤدي في نهاية المطاف إلى تنويع مصادر الدخل وتقليل المخاطر التي قد تتعرض لها هذه الاستثمارات في الخارج. ومما يزيد الطين بله في الولايات المتحدة هو تعرض الإصلاحات المالية للرئيس أوباما لتحديات حقيقية بعد أن سيطر حزب "حفلات الشاي" اليميني المتطرف على الكونغرس، مما سيعيق تنفيذ هذه الإصلاحات المهمة، ويتطلب من بقية المستثمرين في العالم الاهتمام بالاستثمار في بلدان الشاي الصيني الصحي والقهوة الفرنسية و"الكاباتشينو" الإيطالي المطعم بالشيكولاتة السويسرية اللذيذة.