11 سبتمبر 2025

تسجيل

بالأمثال ربونا

15 أكتوبر 2012

ما من شيء أقوى من الميراث، إذا كانت للخلود يد فإن الميراث يده التي ينقل بها الكائنات، من زمان إلى زمان. (توفيق الحكيم). جيل فصيح بعاميته، بليغ في كلامه، فعندما أدّب اختار الشعر لغةً، والأمثال رسائل، تطير من التجربة إلى الذهن، قد لا نفهمها بصورتها الكاملة حين نسمعها لأول مرة، ولكن كان الزمن كفيلا جداً، بأن يعلمنا إياها بجوهرها الصافي، ومعناها الصحيح. إن أمثالنا التي بها تربينا تكاد أن تندثر، وقد ماتت على حواشي ألسن من رحلوا، أو أنها كادت أن تصدأ في مسامعنا، لا نسمعها ولكن الصدى هو الموجود فقط، الصدى بأصواتهم، قبل أن يرحلوا عنا وعن الأمثال والحياة. لعل أشد الأصداء تأثيراً في نفسي، صدى لصوت جدتي، تردد في حكمة، لا أذكر أنني أبصرتها يوماً "أدّب وليدك كان تبغيه يشفيك / لا زعلت أمه لا تخليه يولاك ". لا أظن حينها أنني فقهت حرفاً أو معنىً أو حتى السبب الذي دعاها إلى ترديده، ولكن لأنه ظل في خزانة الذاكرة، استطعت أن أسترجعه يوماً ولكن بصورته الكاملة، الحرف، والمعنى، والمناسبة أيضاً. أيضاً صوت أبي الوقور وهو يردد لنا وللدهر، بيت الشعر الذي أظنه للشاعر "ابن لحدان"، يقول لنا أبي في رجاء المتكلم " ولا تزدري الطيبين بلبسهم / كم جوهرٍ غادي وفي غمده صدى". إن وصية تحمل في قلبها الشِعر كتلك التي كان أبي يكررها على مسامعنا بقصد التثقيف في ما يخص البشر، ما كانت لتغيب عن خاطري لحظة، أحملها في ذهني بنصف معنى، لتكمل الأيام النصف الآخر. "أنا ثريّا.. عَنْك عليّا.. وين تلحقني يا مسكين" كانت تردده أمي وهي قريبة جداً من أذني، كأنها كانت تشدد في نُصحي، أن الإنسان يتعلّى عن الثرى بالثريّا، في الطبع والخُلق والتعامل، والمسكين هو من حاول أن يجره إلى الزلات في محاولة بائسة لاستفزازه، ولكن تبقى السماء موطناً للنجوم، وصدرها أوسع من أن تضيّقه الرياح. والآن، وبعد عمر ما بين الصوت الذي سمعته، والصدى الذي يتكرر في كل موقف مشابه تمر لتلك الأمثال والأشعار، أؤمن أن منهجهم في التربية كان الألطف والأجمل والأنقى والأفصح، ارتقوا حتى في مفردة التأديب، فارتقينا بحرفهم وحديثهم ونيتهم النقية، اللهم ارحم من توفيّته منهم، وأمد في عمر الأحياء منهم، وألهمنا منهجاً صحيحاً بليغاً نربي عليه الأجيال القادمة.