03 نوفمبر 2025
تسجيللا يزال ينساب إلى اسماعي رغم مرور الزمن والسنوات الطوال صوت الجد (بو سعيد) جارنا القديم الذي طالما أمعن النظر في السماء كلما جنّ الليل، ليبدأ بعد تأمل طويل إلى إطلاق زفرات وآهات حارة من صدره ليرفع صوته بعدها بموال شجي كثر صلاتي وبادي على شفيع العبادي واشفاعتك يا محمد يوم الحشر سنادي يوم الحشر يا شفيعي ذخري وغاية مرادي يأبى هذا الرجل مغادرة زمنه لذا تراه وهو يؤدي موّاله الشجي ينسحب نحو زمنه تلقائياً فيحرك يديه بشكل دائري وكأنه لا يزال يجدف مجدافين يدفعان المياه لتحريك القارب، ويحدّق للبعيد وكأنه ينظر للأفق الممتد فوق البحر. وبعد أن يأكل ثلاث حبات من التمر ويشرب فنجان قهوته، نسمعه يرفع صوته ثانية وهو يحرك كفيه حركة متكررة سريعة أمام وجهه كأنه يسحب حبلاً هولو جدم صلاتي هولو صلاتي على محمد شفيع العبادي................... ثم سرعان ما يصفق تصفيقاً عالياً .. كنت في طفولتي أستمع إليه بدهشة لا تضاهيها دهشة، وكأنه مخلوق استثنائي نادر هبط علينا من مركبة فضائية أو قدم إلينا من فجر التاريخ، فالزمن الذي عشته لم يكن زمنه الذي عاشه هو، هذا الجد الثمانيني الذي أصرّ ألا يفارق بروحه زمانه الذي عاش فيه في الماضي واستغرق فيه حتى كاد ينفصل عن حاضرنا المعاش. ... فأبو سعيد يصر على أن يشرب الماء من (الحب) وينام على فراش من القطن وان قبل على مضض ادخال مكيف الهواء إلى غرفته لكنه لا يزال يحتفظ (بفطامه) و(ديينه )القديم . عندما انتقل (أبي سعيد) إلى جوار ربه، مات ميتة طبيعية وبهدوء شديد دون أن يثر أية فوضى أو ضجة، لكنه ترك غصة كبيرة في قلبي، لا أبالغ لو ذكرت أن طعمها لا يزال حتى اللحظة، فقد اعتدت وغيري من صغار الحي على سماع صوته الشجي ينطلق كل مساء يشدو بمواويله التي لم نفهمها وقتها، ولا حركاته وإيماءاته. كان هذا الرجل أليفا قريباً من الروح والقلب تعودنا على حكاياته و(حزاويه) التي تنطلق على مسامعنا وكأنه وهو يرويها يحاول إدخالنا إلى زمنه العذب المتشبث بأذياله، أو كأنه يحاول دونما قصد أن يخلّف جزءاً من ذاكرة زمنه إلى صناديق رؤوسنا ليترك بداخلي أنا — على الأقل — هذا الشغف تجاه أشياء حقبة زمنية منقضية من تاريخنا القريب العهد.