03 نوفمبر 2025

تسجيل

رغيف الخبز

15 أغسطس 2014

لا شيء أكثر إثارة للحواس وإنعاشاً للذاكرة من رائحة الخبز الناضج الخارج تواً من التنور ، فرغيف الخبز بالنسبة لشعوب الأرض ليس مجرد غذاء أساسي يقيم أودهم ويسد رمقهم ، بحيث أطلقت عليه بعض الشعوب اسم (العيش) ، وإنما يمثل مخزوناً هائلاً من الذكريات الإنسانية التي تحتفظ الشعوب والجماعات بها عميقاً في أصقاع الذاكرة الجمعية للبشرية. حيث تعود هذه الذكريات بزمنها إلى عهود غابرة من تاريخنا الإنساني، وقد لا يدور بخلد أحد أن صناعة الخبز وطحن الدقيق مارسها الإنسان قبل أن يتعلّم طريقة زراعة القمح ، وقبل أن تغدو سنبلة القمح رمزاً للرخاء و الوفرة والدعة. فقد تعرّف الإنسان مصادفة على سنابل القمح مثلما تعرّف على غيره من ثمار أو حبوب، وكان ذلك قبل أكثر من ثلاث عشرة ألف سنة، وقد حدث ذلك في (وادي النطوف) الواقع في شمال غرب القدس في فلسطين ، إلاّ أننا لا نعي الدور الذي لعبه القمح منذ تمّت زراعته في العصر الحجري الحديث، عندما توقف الإنسان عن العيش متطفلاً على الطبيعة ، ليتعلّم و لأول مرة في تاريخه كيفية إنتاج غذاءه بنفسه ، و قد عرفت هذه المرحلة بالثورة النيوليثية (الثورة الزراعية) ، وعدّت (ثورة) من أكبر الثورات الإنسانية، نظراً لأهميتها على مستقبل الإنسانية، فاكتشاف الزراعة و على رأسها زراعة القمح هو الذي قاد إلى قيام الإمبراطوريات والمدنيات وبالتالي النظم الاجتماعية المعقدة.فعندما أصبحت الحبوب بشكل عام، و سنابل القمح بشكل خاص منذ بدء زراعتها مصدراً أساسياً من مصادر الغذاء، ويقابلها الأرز في أقصى الشرق، كان من المنطقي أن يصبح القمح رمزاً للثورة النيوليثية ( الثورة الزراعية ) ، وقد وجدت سنابل القمح محفورة أو منقوشة على عدد هائل من المنحوتات الآثارية، فقد أصبح القمح ومنذ بدء زراعته أساساً للغذاء، كما اتخذ أهميته كرمز للرخاء و الوفرة والدعة، فإذا كانت سنة حصاده سيئة أو كان حصاداً غير وفير اعتبرت السنة سنة مجاعة و قحط ويأس. وقد قدّست الشعوب الزراعية القمح تقديساً لا تضاهيه أية نباتات أخرى باستثناء بعض الأشجار تبعاً لكل منطقة من مناطق الشرق الأدنى القديم، حيث دخلت النخلة في تنافس شديد مع القمح في بلاد ما بين النهرين، فيما تنافست شجرة (الجمّيز) لدى قدماء المصريين، كما قدسوا كذلك نبات (البردي) الذي كان تأثيره خطيراً على الحضارة المصرية . وقد عدّت سنبلة القمح (بذرة طيبة) ، كما اعتبرت السنابل الأولى في كل محصول بمثابة (قربان) نباتي يقدّمه الناس للآلهة، وهو تقليد ضارب في القدم ، و بداخل هذا الطقس نمت و ترعرعت المقولة الشهيرة: (بيننا عيش و ملح) التي تقودنا مباشرة ودون لبس إلى (الممالحة)، أو إلى ذلك التعبير الموغّل في الذاكرة الجماعية للإنسانية، و لا يزال (البدو) حتى أيامنا هذه يعتبرون عادة (الأكل والشرب) رمزاً قوياً للمشاركة، فما يجمع البدوي بالآخرين أثناء الطعام ليس محض عرف اجتماعي منقطع الجذورعما يسبقه. وقد كان الخبز مصدراً أساسياً من مصادر الغذاء حتى في ضربات الجوع المتكررة التي تضرب أنحاء من الشرق الأدنى ومنها جزيرة العرب ، لذا تعيّن على سيّد من أسياد (قريش) تحوّل اسمه بعد تقديم (الثريد) أثناء المجاعة من (عمرو) إلى (هاشم) لتهشيمه الثريد و إطعام الجيّاع ، فالطعام المفضل لقبيلة قريش أثناء الجوع والقحط كانت (السخينة) وهي نوع من المرق يصب فوق الخبز. إزاء ذلك كان تاريخنا الإنساني البطيء الحركة، الذي يعج بالنزاعات وبالحروب والمجاعات، ويعج بالبحث عن القمح وعن مناجم الذهب، ويعج بالري وبالجفاف والأراضي، و الذي لم يكن إلاّ تاريخاً للتوازنات التي أقامتها البشرية بين العوز والحاجة وبين الرخاء ، لذا يبرز الخبز كرمز إنساني مهم في الكثير من الثقافات العالمية.