13 سبتمبر 2025
تسجيلخطر بذهني أن التوقيت لاستعراض (أحسن القصص) قد حان. ولفت انتباهي أن المولى عز وجل قال قبل سرد القصة لنبيه الكريم فيها إنه كان من (الغافلين) وأتساءل عزيزي القارئ لماذا هذا اللفظ القرآني العجيب في بداية السورة؟ هل هو لشد انتباه القارئ؟ أم ماذا؟ والعجيب أيضا يا سيدي الكريم أنه عندما تتأمل هذه السورة تجد فيها ما لا يعد ولا يحصى من الدروس للقارئ (الفطن) اللبيب.. فمن ابتداء السورة بالرؤيا العجيبة التي رآها عليه السلام، إلى الحوار الطيب بين الابن وأبيه نرى المشهد القرآني وهو ينتقل في براعة لغوية معجزة إلى حوار إخوته بينهم عليه، وتآمرهم المشين الذي وصل بهم حد التصريح بقتله. ولم تقتلوه؟ قالوا (يخل لكم وجه أبيكم) هكذا بكل بساطة بسبب الغيرة. تلك الغيرة العمياء والحقد الأسود الذي أعمى بصائرهم حد الرغبة في القتل فضلّوا سواء السبيل فانظر إلى أين انتهى به وبهم الأمر. انظر معي ابتداءً لحال يوسف عليه السلام وتأمل، هل كان غافلا عن تآمر إخوته؟ هل من المعقول أنه لم يكن يعلم بغيرتهم منه؟ كيف لا يعلم وأبوه قد حذره من إخبارهم بالرؤيا فيكيدوا له كيدا؟ لقد كان المشهد واضحا له عليه السلام، فلماذا إذن وافق على الذهاب معهم في رحلتهم المشؤومة تلك؟ قد يقول أحدهم إنه بسبب صغر سنه أو أنه تدبير من الله تعالى وهذا وارد وقد يكون صحيحا لكني أقول إنه من الوارد أيضا أن يوسف الصدّيق عليه السلام (تعمّد) التغافل وتجاهل غيرة إخوته، لأنه كان يطمح إلى ما هو أعلى مقاما وأثقب رؤية فوافق على الذهاب مع إخوته في رحلتهم المشؤومة لعل قلوبهم أن تتصافى وترق له ولعل تلطفه معهم قد يزيل بعض ذلك الحقد الذي في صدورهم، ولا تستغرب عزيزي القارئ إن رأيت الأخ يغار من أخيه لأي سبب من الأسباب، فالأمثلة في واقعنا المعاصر أكثر وأوضح من أن أذكرها للقارئ الفطن الحصيف. لقد رأى يوسف أنه بمجاملة إخوته سيرقق قلوبهم ولكن امتطاء الشيطان ظهورهم وتحكمه في مشاعرهم أعمى أعينهم عن رؤية فرصة التصالح وأصبحوا لا يريدون أن يروا وجه أخيهم الذي أعطاه الله شطر الجمال، فانظر كيف صار الجمال قبحاً في أعينهم ولكنها لا تعمى الأبصار بل تعمى القلوب التي في الصدور ولا حول ولا قوة إلا بالله. انظر كيف انقلب كيدهم عليهم! وانظر كيف كان جزاؤهم وكيف حقّرهم القرآن أيّما تحقير فجعلهم يعترفون بضلالهم لما قالوا (وتكونوا من بعده قوما صالحين) وجعلهم يعترفون لأبيهم بكذبهم لما قالوا لأبيهم (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)، ثم أنهم برغم تفاخرهم بأنهم عصبة، ألم تلحظ معي أنه من شدة احتقار القرآن الكريم لهم أن رفع ذكر يوسف وحده وطمس أسماءهم عن الناس؟ ألا ترى كيف جعلهم الله يفرحون بادئ الأمر بعصبتهم واجتماعهم على أخيهم ثم كيف أهانهم الله في منتصف القصة لما دخلوا من الأبواب المتفرقة فلم يعودوا عصبة؟ فهل نفع هذا الأمر معهم؟ هل ذهب عنهم صلفهم وغرورهم؟ أم أن الأمر مجرد حاجة في نفس يعقوب قضاها وكفى؟، لكن تأمل معي هذا الموضع كيف أنهم برغم امحالهم وفقرهم وطول السنين والفرقة بينهم وبين أخيهم إلا أنهم ما زالوا يكرهونه ويغارون منه حتى كذبوا عليه أمامه واتهموه بالسرقة حاشاه، وأتساءل هل يا ترى جاءت هذه الآية لنعلم أن طول المدة والزمان ليست كفيلة بجلأ صدأ القلوب؟ وكيف أن بعض القلوب الحاقدة لا علاج لها، أم أن هناك علاجا؟ وما هو ذلك العلاج ولكن انظر معي أولاً للحبيب يوسف عليه السلام ماذا كانت ردة فعله؟ (فأسّرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) هل هي محاولة أخرى لعودة المياه لمجاريها؟ أم هو من التدبير الإلهي الذي صرح عن تمكين يوسف من قبل دخوله السجن؟ أم هو درس من القرآن بأن بعض الناس لن يتغير موقفه منك إلا إذا كان بموضع الإخوة في آخر القصة؟ أؤلئك الإخوة الذين لم ترق قلوبهم على أخيهم إلا بعد أن انهدمت أبراج غرورهم الفارغة وانهارت قلاع فخرهم الخاوية حتى جعلهم الله تحت أقدام يوسف لما سجدوا له في آخر القصة؟ سأتوقف هنا عزيزي القارئ حتى لا أثقل عليك ولأني على ثقة أن قراءة هذه السورة في هذه الأيام الفضيلة ستدخل إلى قلبك الرضى بحكم الله والإيمان بتمكينه ونصره ما دمت على الحق حتى لو وجدت نفسك وحيدا مرميا من قبل إخوتك في قعر بئر من الآبار في وسط الصحراء.. وفي يوسف في مصر للناس عبرة ** من القيد أضحى مالك الأرض والنفسِ [email protected]