15 سبتمبر 2025
تسجيلنتحدث الآن عن أسباب الكذب الباعثة عليه، والمؤدية إليه، وعن بعض أكثر مظاهره انتشاراً وشيوعاً بين الناس في هذا الزمان الأخير، الذي صار فيه الكذب عند الكثير، كأنه شيءٌ من ضرورات الحياة، التي لا يستغنى عنها في شرع البشر، أو هو عندهم بمثابة حاجة من الحاجات التي لا يمكن العيش بدونها، كمثل الهواء والطعام والشراب، ولو أمكن تصور عيشهم بدونها، لأمكن تخيل تركهم الكذب والنفاق.أما أسباب الكذب الرئيسة، فمنها بعد نقص الدين، وضعف الإيمان، ضَعة النفس، وسقوط المروءة، وعادات السوء التي ينشأ عليها المرء ويتربى، نتيجة فساد المحيط الأسريّ، فيغدو مع الكذب، كأنهما رضيعا لِبان، وهي أسباب تدل في مجموعها على اللؤم، وسوء الأدب مع الخالق والمخلوقين، وما أحسنَ قول الشاعر الذي جمع معظمها بإيجاز في بيت واحدٍ، وصدق في وصف شناعة الكذب في البيت الثاني، فقال:لا يكذبُ المرُ إلا من مهانته أو عادة السوء أو من قلة الأدبِلبعضُ جيفةِ كلبٍ خير رائحةً من كِذبةِ المرء في جدٍّ وفي لعبِوبقي هناك سببٌ، أرى أنه لا يكاد يسلم من غشيانه واتخاذه إلا القليل، الذين لو أردنا وصفهم بعبارة مقتضبة، لقلنا عنهم: إنهم مهذبو الأخلاق، وما أقلهم وأندرهم، ألا وهو الكذب لجب المنافع، أو لدفع المضار، وهو سببٌ يوحي به التوهم، ويدفع إليه التخوف، ويحمل عليه العجز، وتسبغه الظنون ثياباً من الحق تلبّس بها الباطل، فتغترُّ النفس وتنخدع بما زُيّن لها.لكنّ الذي استقرت في نفسه الحقيقة الثابتة، وأصبحت فيها كالحق المبين، وهي أن الصدق فضلٌ ومَحْمَدةٌ، وأنه من مقتضيات الإيمان، قد حثّ عليه الدين، وبه أمر، كيف له أن يظن مجرد الظن، أن الصدق قد يأتي منه ضُرٌّ وسوء، ومن تقرر عنده أن الكذب خُبْث ومذمة، وأنه من مقتضيات النفاق، الذي شدّد عليه الدين الويل والعقاب، كيف يعتقد أن وراءه نفع وخير.وانظر وتأمل في نصيحة النبي عليه الصلاة والسلام، للحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما:(دع ما يَريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينةٌ، والكذب ريبةٌ).وقد قال حكيم العرب أكثم بن صيفيّ: (الصدق منجاة، والكذب مهواة)، وقال بعض السلف:(عليك بالصدق فما السيف القاطع في كف الرجل الشجاع، بأعز من الصدق، والصدق عزٌّ وإن كان فيه ما تكره، والكذب ذلٌّ وإن كان فيه ما تحب، ومن عُرف بالكذب، اتهم في الصدق)، وقال الشعبيّ:(عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك، فإنه ينفعك، واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك)، وصدق من قال:(لو لم يترك العاقل الكذب إلا مروءةً، لقد كان حقيقاً بذلك فكيف وفيه المأثم والعار)، وهذا من قولهم قديما: لو لم أترك الكذب تأثماً لتركته تذمماً.واعمل بالقول المأثور:( قل الحق ولو على نفسك، قل الحق ولو كان مرَّا)، وبقول الشاعر:عليك بالصدق ولو أنّه أحرقك الصدقُ بنارِ الوعيدِ