18 سبتمبر 2025

تسجيل

رجل الأخلاق.. أبو البُختري

15 يونيو 2016

ازداد غيظ كفار قريش في مكة بعد أن خابت مساعيهم، وفشلت حيلهم، في صد رسول الله عن تبليغ دعوته، ومنع الناس عن الدخول في دين الإسلام، وبدا لهم عجزهم ظاهرا بعدما هموا بما لم ينالوا، حين أرادوا قتل النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك لأن أبا طالب عمَّ رسول الله، كان قد أحاط ابن أخيه بعنايته وظلله في كنفه، وحفظه من أن يمس بسوء أو كيد، ولم يكن ذلك موقف أبي طالب وحده، ولكن اجتمع بنو هاشم، وبنو المطلب، ولدا عبد مناف على أمر أبي طالب، في حِياطة رسول الله، والذود عنه، والقيام دونه في وجه مشركي قريش.شق ذلك على كفار قريش، ورأوا أن يجمعوا أمرهم على مقاطعة ومنابذة بني هاشم، وبني المطلب، بحيث لا يبيعونهم، ولا يبتاعون منهم، ولا ينكحون إليهم ولا ينكحونهم حتى يسلموا محمدا للقتل، وتحالفوا على هذه المقاطعة المادية والاجتماعية، وقاموا بكتابتها على صحيفة عُلقت في جوف الكعبة، واستطاعوا فرضها، فأحكموا الحصار عليهم في شعب أبي طالب، واجتهدوا في التضييق عليهم، ومنع الميرة عنهم، إذ كان المشركون يبادرون بشراء كل ما يدخل مكة من قوت، ويساومون التجار على شرائه بثمن غالٍ، كيلا يتمكن معشر أبي طالب من ابتياع أي شيء من داخل مكة، كما كانوا يمنعون التجار من مبايعتهم، فلم يكن أمامهم من خيار إلا الشراء من العِير قبل ورودها مكة وفي ذلك مشقة عسيرة عليهم، لم تكن لتغني عنهم شيئاً.استمر الحال على ذلك، ثلاث سنوات، والمسلمون وغير المسلمين من بني هاشم، وبني المطلب، محاصرون أشد الحصار في شعب أبي طالب، مقاطعون مقاطعة شديدة، حتى استحالت حياتهم، وتبدلت أحوالهم، ولقوا العناء والشقاء صابرين، لا يشكون إلا إلى الله ما أصابهم من المجاعة التي اضطرتهم إلى أكل ورق الشجر الأخضر، وشد الحجر على البطن الأجوف، وقد صاروا من قسوة العيش، وشدة الحاجة، في مثل حالة المحتضَر الذي ينتظر استقبال الموت، ومفارقة الحياة، ويود ألا يطول عليه ألم النزع، غير أن مدة حالتهم طالت وامتدت أياماً وشهورا وسنوات، على غير ما تكون مدة حالة المحتضر في طولها، قبل أن تنزل عليه راحة الموت تقضي على أوجاع وآلام حياته وتخلصه منها.كان المسلمون في حصارهم لا يصلهم شيء من الطعام من داخل مكة إلا سرا وخُفية، وكان ما يصل إليهم نزر قليل لا يكفيهم جميعا، ومع ذلك لا يستطاع جلبه إلا بعد جهد، وممن يملك حيلة وطَوْلا، من ذلك ما كان يحمله حكيم بن حزام، من قمح إلى عمته السيدة الكريمة خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، وفي ذات مرة علم أبو جهل بشأن حكيم، فأقبل عليه يمنعه ويحجزه بعنف وغلظة، وجعل يحذره ويخوفه من مغبة ما يفعله، وقام بينهما جدال عنيف لم يحسم إلا بفضل رجلٍ أيِّ رجل، رجلٌ اسمه أبو البُختري بن هشام، الذي قام في وجه أبي جهل زاجرا ورادعا، ومكّن حكيم بن حزام من حمل القمح إلى عمته، وقال لأبي جهل: دعه يمضِ لحاجته، وخلِّ بينه وبين ما يسعى، ما بالك يا أبا الحكم، أتريد أن تمنع حتى هذا الشيء الزهيد عنهم، وخاصة عن خير نساء قريش شرفا ونسبا، مما يمسك رمقهم، ويدفع عنهم غائلة الجوع، إن ذلك ليس لك، ولن أسمح به وأنا عليه شهيد.. لم يجد أبو جهل شيئا يقوله بعد قول أبي البختري، وانكفأ مغضبا حنِقا مما سمعه ورآه.مضى أبو البختري بعد موقفه ذلك في شأن نفسه، وجعل يفكر ويسرّح نظره يمينا وشمالا، قد شغله تفكيره فيما يحدث من حوله وما يجري أمامه من أحوال وظروف، وفكر فيما آل إليه حال القوم المحاصرين، الذين بلغ منهم النَصَب مبلغه، وهم على مسمع ومرأى منه ليسوا عنه ببعيدين، فثارت في نفسه أسئلة عدة، انتصبت واقفة أمامه، وقالت لقلبه: حتّامَ يبقون على تلك الحال القاتلة المدمرة؟ وعلامَ يجازون بهذا الجزاء؟ ألذنب ارتكبوه أم لجُرم اقترفوه؟ ثم اتجه أبو البختري إلى نفسه وقال لها: يا ويحي، كيف أصمت عن شيء مثل هذا، بل كيف أقبل به، كلا لا أرضينّ به أبدا، وكيف أرضى به وآكل وألبس أنا وعيالي هانئين وادعين، على حين غيري من حوالَيْ ممن أعلمهم وأنظر إليهم، معدِمون محتاجون لا يجدون الغذاء والكسوة. ولكن ماذا أفعل؟ وماذا أستطيع صنعه؟ وماذا في يدي؟ وآه من ماذا هذه، ومن أثقالها ومطالبها.ذلك بعض الذي وجده في نفسه أبو البختري من حياة القلوب، وصحوة الأحاسيس، مما يمتاز به الناس الأسوياء من بني آدم، الذين يصح على واحدهم نعته باسم الإنسان، أولئك الذين أنعم الله عليهم بهبة القلب والإحساس، ورعوا نعمة الله حق رعايتها، فأمدّت أرواحهم بفيض المشاعر والعواطف. كان الذي قام في نفس أبي البختري قام مثله في أنفس أربعة من أشراف مكة، اجتمعوا وقد اتفقت مشاعرهم وآراؤهم، واتحدت كلمتهم على ما عزموا عليه من نقض تلك الصحيفة الجائرة الظالمة، وهم هشام بن عمرو العامري، وزهير بن أبي أمية المخزومي، والمُطعم بن عَدي النوفلي، وزَمعة بن الأسود الأسْدي، استجابوا جميعا لنداء القلب، وأصاخوا إلى صوت الضمير، فاتفقوا ليلا فيما بينهم على القيام بنقض الصحيفة.لما أصبحوا غدا زهير المخزومي إلى البيت الحرام وطاف به، ثم أقبل على الناس وقال:(يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم وبنو المطلب، هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة). فسمعه أبو جهل فقال: كذبت، كلا لا تشق. فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، إنا ما رضينا كتابتها حين كتبت. فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كُتب فيها ولا نقر به. هنا قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك. وانبرى هشام بن عمرو، وصدّق ما قالوه. حينئذٍ انخذل أبو جهل صاغراً وقال: هذا أمرٌ قُضي بليل، تشاوروا فيه بغير هذا المكان. وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فشقها ومزقها، وعندئذ انزاح الكرب، وانجلت الشدة، وخرج رسول الله ومن معه مما كانوا فيه في ذلك الشعب.مضت الأيام والشهور الطوال، وهاجر رسول الله وصحابته إلى يثرب، حيث أقاموا هناك دولة الإسلام، وأسسوا بنيانها بتضحيات من المهاجرين، وتأييد ونصر من الأنصار، حتى فرض الله أن يلتقي المسلمون مع الكافرين في موقعة قتال وذلك يوم "بدر" اليوم العظيم الذي ذل الله فيه الكفر، وأعز الإسلام. قبل أن يلتحم جمع الإيمان بجمع الشرك في بدر، علم النبي بوجود أبي البختري في صفوف الأعداء، وقد كانت قريش دفعته على الخروج، وأكرهته على القتال، بما لزعمائها المشركين من نفوذ وسلطة في مكة، وهو لا يريد قتالا، ولا أذىً بأحد. علم النبي بذلك وتذكر ما لأبي البختري من فضل، وسابقة خير، وجميل عُرف، ووقوفه موقف الأبطال النبلاء في مواجهة طغيان الظلم، ورفضه البغي والجور، وعدم السكوت عن الحق، الذي فيه إنصاف المظلومين المضطهدين، استحضر كل ذلك رسول الله، وهو الوفي الذي لم يخفرْ ذمة، ويهضمْ حقا، ولم يخلف وعدا، وينقض عهدا، ولم يضِعْ أمانة قط، وما كل أولئك إلا من خلق الوفاء الكريم، الذي دعا الناس إليه، ورأوه مجسما في خلقه العظيم.ألزمه وفاؤه عليه الصلاة والسلام، تجاه أبي البختري، أن يقول لأصحابه: (من لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد، فلا يقتله). ولكن كان لله أمر آخر، ومشيئة أخرى، وبيان ذلك، أن أبا البختري لقيه في ساحة الهياج، الصحابي المُجذّر بن زياد، وكان مع أبي البختري رجل زميل له وصديق، فقال المجذر: يا أبا البختري، إن رسول الله قد نهانا عن قتلك. فقال: وزميلي هذا؟. قال المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك. هنا ثارت نخوة أبي البختري من جديد، وصاح في وجه المجذر: ماذا تقول؟! واثُكل أماه، ولك الويل، أتريدني أن أنجوَ بنفسي وأُخلِّيَ صديقي وزميلي يلقى مصيره وحيدا، والله لأموتنّ أنا وهو جميعا، أو لَنسلَمَنّ جميعا، فلا يتحدث عني الناس أني تركت زميلي حرصا على الحياة. ثم اقتتلا وارتجز أبو البختري وهو يقارع المجذر قائلا:لن يتركَ ابن حرة زميلَه حتى يموتَ أو يرى سبيله