16 سبتمبر 2025
تسجيلحاول أيها القارئ العربي الكريم أن تقرأ معي هذه الأحداث الكبرى التي هزت العالم من حولنا و أن تفك معي طلاسمها خاصة و نحن كأمة عربية نعاني من أزماتنا المستفحلة التي تطردنا تدريجيا و بإصرار من دائرة التاريخ لتضعنا في موقع الهامش العاجز عن الحركة و التأثير. إن ما وقع يوم 8 مايو في فرنسا يعتبر مؤشرا صادقا جديدا يضاف الى ما سبقه للتدليل على أن عاصفة سياسية و حضارية هوجاء هبت على فرنسا إحدى رائدات الثورة العالمية منذ 1789 و أم الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ! عاشت فرنسا كقاطرة للاتحاد الأوروبي صلب منظومة تقليدية هي (السيستم) المعروف هذا (السيستم) الذي يصنع كوادر الدولة و الإدارة و القانون حسب هيكلة أساسية لا تتغير عبر (المدرسة الوطنية للإدارة) والانتخابات المحلية و التشريعية و الرئاسية أي من خلال صب النخبة في قوالب جامدة ظلت على مدى قرنين و ثلث هي مصنع تخريج ما يسمى الصفوة في المناصب العليا للدولة و القضاء و المنظمات الوطنية كالنقابات و الجمعيات المدنية مرورا برجال الكهنوت الكنسي و أبطال الرياضة و المحاماة وحتى نجوم الفن و أساطين الإعلام و رجال الأعمال و المال و نساء الخفاء و بلاطات الطبقة النافذة التي تشبه (المخزن) في المملكة المغربية ! هذا المخزن الذي يقوده منذ قرن تياران كبيران هما اليمين و اليسار يتداولان على السلطة عاليها و واطيها لكنهما حتى يحافظا على التمكن المستمر و تقاسم امتيازات السلطة يوزعان الأدوار بينهما بدهاء كي يوهما الشعب الفرنسي البسيط أنه يمارس الديمقراطية !! و يتمتع بثمار التنمية ! اليوم 8 مايو 2017 أعلن عن موت اليمين و اليسار نهائيا و سار الجميع في جنازتيهما. الأسباب عديدة أولها أن اليمين الجمهوري عوضه اليمين العنصري المتطرف الذي وصل إلى النهائيات و اليسار التقليدي الاجتماعي عوضه اليسار المتطرف عبر السيد (ميلنشون) و فاز ب19% مقابل الإشتراكي الكلاسيكي بينوا هامون الذي لم يفز الا ب6% السبب المهم الثاني هو أن القادم للرئاسة الشاب إيمانويل ماكرون لم يتدرج في سلم الصعود المعروف الخاص بالسيستم وهو منذ سنة لم يكن يعرفه أحد خارج وزارة الاقتصاد التي تولاها و لم يتخرج من المدرسة الوطنية للإدارة بل لم يدرس الاقتصاد أصلا فهو مغرم بالأدب و الفن و الرياضة و الموسيقى و الفلسفة و متزوج من امرأة سنها 64 عاما وهي جدة لديها أحفاد و الرئيس الجديد سنه 39 عاما أصبح جدا بحكم الارتباط بالجدة المسنة السيدة بريجيت وهو في سن أبناء زوجته بل أصغر! المهم ليس هذه الطرافة لأنها تهمه هو وهي حياته الشخصية ليس لأحد أن يتدخل فيها ! لكن الذي يهم الرأي العام هو برنامجه للخمس سنوات القادمة ليحل معضلات فرنسا بشكل جريء غير تقليدي فالشعب الفرنسي ظل وفيا لروح فرنسا و لم ينتخب اليمين المتطرف على رأس الدولة ! يقول الملاحظون بأن تجربة الحكم في كندا أثبتت أن الشباب المتمثل في رئيس الحكومة (جوستان تريدو) نجح في تغيير حال الكنديين بشجاعة و دون تهور و بلا شعارات و بأن اليونان لم تنج من الإفلاس منذ سنتين إلا بقيادة الشاب (ألكسيس سيبراس) وهو ما دفع الناس العاديين في أوروبا إلى حجب الثقة عن السياسيين العريقين و كبار السن من أجل منح فرصة تاريخية للشباب و القادمين من خارج المنظومة. ثم ما وقع في واشنطن في شهر نوفمبر الماضي بمفاجأة انتخاب الرئيس ترامب رجل الأعمال الثري على منافسته هيلاري كلنتن التي لم يشك (عاقل) في نجاحها !! مهما يكن تحفظنا نحن على ساكن البيت الأبيض فهو فرض رؤيته على أمة أمريكية غاضبة و يائسة ! و أصبح يمارس سلطاته بنوع من الارتجال المستند إلى دستور أو بالأحرى إلى فقه دستوري غير تقليدي حسب تفسير مستشاريه ! لكن الأهم هو أن بلوغ ترامب سدة الرئاسة يفتح باب الوفاق مع روسيا و غدا مع الصين للاتفاق الثلاثي بين العمالقة الحقيقيين على انتهاج ما يسمى طريق الحرير الجديدة أي ربما إلغاء النظام العالمي الأطلسي القديم القائم على الحرب الباردة و اختيار سبيل السلام و التعاون الدولي من أجل التنمية الأقرب الى العدل. من يدري ؟ فالفرنسيون عندما انتخبوا شابا واعدا ساندوا هذا الاتجاه الجديد نحو نظام عالمي بديل فالسيد (ماكرون) أعلن في الجزائر منذ ثلاثة شهور أن الاستعمار الفرنسي ارتكب في الجزائر و في مستعمراته القديمة جرائم حرب في حين دغدغت مارين لوبان ومعها الوزير الأول الأسبق فرانسوا فيون غرائز الشعب الفرنسي البسيط بالقول أن الاستعمار كان رحمة و نجدة للشعوب المسلمة و أنه شكل "تقاسم الثقافة" بين فرنسا الامبراطورية و الأمم المولى عليها بالقوة !! بل و اقترحوا علينا نحن الذين تكبدنا مصائب الاستعمار رد الجميل و تعويض الخسائر الاستعمارية !!! لكننا لا ننسى أبدا أن الجنرال (بيليسييه) أمر سنة 1860 بإحراق ثلاث قبائل جزائرية (أولاد رياح) في ظرف ساعات عندما التجأت بأطفالها و نسائها إلى جبل في الأوراس فأبادهم الجنرال حرقا وهو ما اعتبره الجميع جريمة حرب و إبادة !!! إن العالم يسعى نحو قيم جديدة بسياسات جديدة و سياسيين من طراز مختلف.