16 سبتمبر 2025
تسجيلبذرة صغيرة تحتضنها الأرض، ومع مرور الأيام تكبر البذرة شيئا فشيئا، إلى أن تصبح شجرة عملاقة.. هذا ما ينطبق على الكائنات الحية بصورة عامة، وحين نطبقه على صلاح عبد الصبور فإننا نجد أنه استطاع- بموهبته المتفردة وثقافته العميقة وروحه المتأملة والمتألمة - أن ينفذ إلى أعماق الإنسان في كل زمان ومكان، وهذا ما أكده من تذوقوا روائعه الشعرية وشاهدوا أو قرأوا مسرحياته الشعرية الخالدة لا بلغتنا العربية العريقة وحدها، وإنما بمختلف اللغات العالمية التي ترجمت إليها تلك المسرحيات، ومن بينها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والروسية، لكني أتصور أن ما استطاع هذا الشاعر العظيم أن يحققه من نفاذ إلى أعماق الإنسان في كل زمان ومكان، ينبغي أن يذكرنا بأن الشجرة المثمرة العملاقة كانت في البداية مجرد بذرة صغيرة. وعلينا- من هذا المنطلق- أن نعود إلى تلك البذرة الصغيرة، وأن نتعرف- بالتالي- على ما تحمس هذا الشاعر العظيم لقراءته عندما كان طفلا صغيرا من أطفال مدينة الزقازيق الصغيرة، وهنا نترك المجال له، لكي نتعرف منه على طبيعة تلك القراءات المبكرة، حيث يقول: ولدت بين صفحات كتب المنفلوطي وجبران خليل جبران.. فقد بكيت مع سيرانودي برجراك وماجدولين وأنا في العاشرة من عمري، ولا زلت أذكر هيئتي بجلبابي وخفي، وأنا أثوي في ركن صغير من فضاء مهمل وراء بيتنا بالزقازيق، ألتهم ما يلقنه سيرانودي برجراك لغريمه من بديع القول، ويتلوى كل عرق لآلام الشاعر وجسامة تضحيته ونبالتها. وقد ظل المنفلوطي معبوديا حتى تعرفت إلى جبران خليل جبران في الأرواح المتمردة والأجنحة المتكسرة فبكيت مع سلمى كرامة وعاشقها التعس.. وحين أقول بكيت لا أتحدث بالمجاز، بل أعني أنني أجهشت بالبكاء في وحدتي وحملت من همهما ما ناءت به النفس. أما الروافد الثقافية التي ارتويت منها – في بداية النشأة – فيمكنني تلخيصها في ثلاثة روافد.. تتمثل في: التراث العربي القديم- شعر المدرسة الرومانسية العربية – النماذج المختلفة من الشعر الأوروبي. فهناك شعراء كبار في تراثنا العربي القديم كنت مفتونا بهم.. وأذكر بالذات.. المتنبي، المعري.. وإن كنت – وما زلت – أكن حبا خاصا للمعري.. هذا الشاعر العربي العظيم الذي كان يحمل هم العالم كله على كتفيه.. وأما عن شعراء المدرسة الرومانسية العربية، فإن الشعراء الذين كان لهم تأثير بالغ على أبناء جيلي بوجه عام، هم إبراهيم ناجي وعلي محمود طه و محمود حسن إسماعيل.. أما النماذج المختلفة من الشعر الأوروبي.. فلم تكن قراءتها تتم أول الأمر بشكل منظم، ولكنها بعد ذلك أخذت مسارها المنتظم.هكذا ظلت البذرة الصغيرة تنمو وتكبر، إلى أن أصبحت شجرة مثمرة عملاقة، وأصبح الطفل الصغير الذي بكى مع المنفلوطي وجبران خليل جبران واحدا من الرواد الكبار في حركة الشعر الحر.. ولكن لو أننا تتبعنا تلك الحركة التجديدية الثورية على امتداد أمتنا العربية، فإننا نجد أن كثيرين من شعرائها كانوا يحشدون في ثنايا قصائدهم أسماء شخصيات أسطورية من طراز سيزيف الذي أتصور أنه تعذب على أيدي هؤلاء الشعراء أكثر مما لاقاه من عذاب أسطوري، كما نجد آخرين يستعرضون ما عرفوه دون تعمق فيما يكتبونه، ولم يكن صلاح عبد الصبور بالطبع واحداً من هؤلاء ولا أولئك، لأنه يدرك أن الثقافة العميقة لا تتطلب التباهي والمفاخرة، بقدر ما تحفز إلى مزيد من التعرف والاستكشاف وإلى مزيد من التواضع.