15 سبتمبر 2025
تسجيلتقول نكتة مصرية ظهرت مع الثورة الشعبية بأن الرئيس عبد الناصر توفي ربما بقهوة مسمومة وأن الرئيس السادات توفي برصاص قاتليه وهو على المنصة أما محمد حسني مبارك فراح ضحية الفيسبوك! وهذه النكتة تؤشر على استفحال ظاهرة الإعلام الإلكتروني ومواقع الاتصال الاجتماعي لا في نقل الأحداث فحسب بل في صناعتها وتوجيه الرأي العام وبالتالي في التأسيس لمجتمعات مدنية جديدة مختلفة تماما عما عرفناه عبر التاريخ. فقد ظهرت على سطح الأحداث الوطنية والعالمية حقيقة جديدة وهي العلاقة الجدلية بين المعلومة والحرية أي في الواقع بين الإعلام والسياسة وبين الأداة والهدف وبين السلطة والمجتمع المدني. كما توضحت معالم الفرق بين الشعوب المتقدمة الغنية والشعوب المتخلفة الفقيرة فيما أصبح يسمى بالفجوة الرقمية التي هي في الحقيقة فجوة حضارية. وقد قيل الكثير على أعمدة الصحف وفي القنوات الفضائية حول هذا الموضوع وملابساته وخلفياته بما لا يدع للمحلل والمفكر أمرا جديدا يستحق التقييم والتعليق، إلا أن ارتباط المعلومة بالحرية ظل ملتبسا لدى بعض النخب العربية التي لم تفهم إلى اليوم عمق التحولات الكبرى التي غيرت خارطة العالم وألغت المسافات ولقحت الأفكار ونقلت الثقافات وربطت بين الناس من أقاصي الأرض إلى أدانيها ووضعت أيدي البشر على الحقائق بواسطة سرعة سفر المعلومة والخبر والصورة والإنتاج العلمي. عندما صدر تقرير التنمية البشرية المستديمة في العالم العربي عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية وكشف عن أزمة العرب وبؤسهم في مجال تخزين وتناقل وتوظيف المعلومة، أصبح من البديهي الحديث عن تخلف عربي تكنولوجي وإلكتروني ليس لدى البلدان العربية الأقل نموا والأكثر فقرا فحسب بل وأيضا لدى البلدان العربية النفطية، مما يشير إلى أن الأزمة الرقمية أزمة ذات أبعاد سياسية وثقافية لا شك فيها وأن الأمر يتعلق بتعطل الانخراط في منظومة العولمة لا بنقص الإمكانات ولا بشح التمويل ولا بندرة الكفاءات، فالسبب الأهم هو ضمور وضعف الإرادة السياسية في تغيير ما بالنفس حتى يغير الله ما بنا. فالمدرسة العربية بقيت عموما خارج ثورة التربية والتعليم التي تجتاح أوروبا والولايات المتحدة والصين والهند واليابان والبرازيل وماليزيا وكوريا، ولو استثنينا محاولات محدودة لتطوير قطاع المؤسسة التربوية لوجدنا أن مصنع الأجيال العربية لا يزال يعاني من التلقين ونقل التراث غثه أكثر من سمينه واستمرار تخريج الموظفين والرعايا أكثر من إعداد المبادرين والمواطنين، وتحولت المدرسة إلى تكديس العاطلين لأنها أصيبت بنفس عقم المجتمع العربي التقليدي المتخبط في تراكمات الماضي والخائف من رياح العصر ولقاح المستقبل والمنطوي على الذات يجتر المجد الغابر. فهل ينفع اليوم أن يكتفي العرب وهم في ذيل قائمة الثورة المعلوماتية بتمثيل دور المتباكين على الفجوة الرقمية والحال أن قضية العرب ليست في الفجوة الرقمية بل في الفجوة الديمقراطية. صحيح أن من حق الاتحاد الأوروبي أن يدعو لتخلي الولايات المتحدة عن احتكار مايكروسوفت لأنه على حق، أما العالم العربي فما دخله في معركة داخلية بين غرب وغرب؟ ولا ناقة له ولا جمل في الفجوة الرقمية ما عدا توظيف هذه العبارة للاستهلاك الداخلي واستمرار الغش في التعامل مع حرية المواطن وحقه في الإعلام من خلال الوسائط الجديدة للاتصال التي هي وسائط جديدة لممارسة الحريات والحقوق ضمن ما يحدده قانون عادل. لا شك في أن بعض الدول العربية حققت تقدما نوعيا في التأسيس لمجتمع المعرفة حسب تقرير المنظمة الأممية الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وهي الأردن ومصر وقطر وسلطنة عمان ودولة الإمارات، ولكن هذه الجهود المشكورة يجب أن تسعى لتشكيل شبكة رقمية تؤثر تأثيرا فاعلا في تطوير مناهج الحكم الصالح بفضل تحاور الأفكار وتلاقح البرامج وضمان المشاركة الشعبية في سن الخيارات وتنفيذ السياسات، لأن النهضة الرقمية ليست غاية في حد ذاتها بل هي وسيلة لتحقيق المجتمع الحر والمتمتع بكرامة بني آدم والمساهم في بناء الحضارة العالمية بقسطه وتراثه وإبداعه. ولذلك رأينا في ندوات دولية مختصة مؤشرات سوء تفاهم ساطع بين بعض الأطراف العربية وبين أطراف أوروبية من حكومات ومنظمات غير حكومية في شأن مفاهيم التنمية الرقمية وحرية تبادل المعلومات واستعمال أدوات الاتصال الإلكتروني والدخول إلى عصر العولمة الحقيقية التي لا تعترف بالحدود الضيقة ولا بهيمنة الفكر الواحد ولا بقمع الفكر الحر. إن الثورة الرقمية المرجوة من الدول العربية ونحن نتوغل في القرن الحادي والعشرين هي بالضبط عكس الثورات المزيفة التي أنجزها العرب في القرن العشرين باسم شعارات براقة ومخادعة كالقوميات والماركسيات والهويات والبعثيات والجمهوريات والجماهيريات والتي انهارت على رؤوسنا جميعا مع ميلاد الوعي العربي بالعقل وما أدراك ما العقل ووعيه بكرامة بني آدم وما أدراك ما الكرامة التي أكدها الله سبحانه في محكم تنزيله، فرأينا تلك الثورات تهوى كأوراق الخريف أمام واقع دولي متغير طرأ علينا ونحن غافلون!