13 ديسمبر 2025
تسجيلها هو رمضان آخر يأتي إلينا في وقته المخصص له من كل عام، في حياتنا هذه، فيقيم فينا وينفذ حكمه، ويذكرنا بما نسيناه، ويخبرنا بما يجب أن نتذكره، ويجعلنا نعتاد عليه وعلى ما فيه من خير وصحة وبركة، وفي الوقت الذي نعتاد عليه تماماً، يذهب ويتركنا. وفي ظلِّ مناخه الروحي؛ يشعر الناس بشكلٍ عميق بأنهم ليسوا وحدهم، وأنَّ ما يعيشونه ليس خاصاً بهم. رمضان تجربةٌ يبني فيها الإنسان جسوراً إلى الله وإلى الآخرين وإلى أتباع الديانات الأخرى، وإلى الماضي والمستقبل، فيشعر بأنه قد تجاوز الزمن، في الوقت ذاته يعيش الناس نفس هذه التجربة في جميع أنحاء العالم، تجربة اسمها الصيام. علاوةً على ذلك، فإن هذه التجربة - التي يتمُّ اختبارها في جميع أنحاء العالم- قد عاشها أناسٌ آخرون منذ أقدم العصور، منذ الإنسان الأول. وأكثر من ذلك؛ ستستمرُّ هذه التجربة حتى آخر إنسان. هذا الإحساس؛ الذي يجعل الإنسان يشعر بأنَّه ذرةٌ من وجودٍ عظيم، يمتد من الزمن القديم إلى المستقبل، فلا يتبقى منه إلا وعيه بوحدانية الله، ومهما قاوم الإنسان هذا الوعي، فإنَّه سيظلُ محفوراً في أعماق روحه كشعار، ومن هناك سيؤثر بطريقةٍ ما في حياة وسلوك كل منا. لهذا السبب لا يمكننا إهمال هذه الشعارات، ولكن حتى لو تمَّ إهمالها، فإن الله قد وضعها في عالم الإنسانية بحيث لا يمكن انتزاعها، فها هي الصلاة، وها هو الحج، وها هي الأضحية، وها هو الأذان، وها هو الحجاب، كلٌّ من هذه الشعارات موجودة هناك في مكانٍ ما، وسواءً اتفقنا مع تلك الشعارات أم لم نتفق، فإنها ستواصل فرض وجودها، وكأنَّ لديها الأدوات الخاصة بها لذلك، ومن خلال تلك الشعارات؛ يتواصل حفظ الله تعالى لدينه كبابِ مغفرةٍ ورحمةٍ للناس. إنَّنا عندما نطبق تلك الشعارات، نجد حماسةً وفرحةً، كتلك التي تكون موجودةً عند من يطبقونها دائماً، فنحن نجد الحياة مع تلك الشعارات، ولكن هل يمكننا المساهمة بشيءٍ تجاههم؟ لابدَّ أننا نفعل، ولكنها ليس كأي شيءٍ آخر يمكننا التعامل معه، بل على العكس من ذلك؛ إن الله يمنُّ علينا بإبقائه لتلك الأبواب مفتوحةً لنا على الدوام. وهكذا؛ عندما يأتي رمضان، لا يمكن لأحدٍ أن يقول له لا تأتِ. إنه يأتي ويُقيم بيننا، فكلُّ فردٍ منَّا كان له نصيبٌ من رمضان وسيكون، حتى أولئك الغافلون عنه، سيشعرون به بالتأكيد بطريقةٍ ما، وحتى أولئك العنيدون اللامبالين به، لن يكون بإمكانهم ألَّا يتعلَّقوا به. بعدها يذهب يذهب بعد أن يُعلمنا ويُذكرنا مرةً أخرى أن الله موجود، وأنه ليس ربُّ أفرادٍ منَّا وحسب، بل ربُّنا جميعًا وربُّ جميع العالمين، وأنه أقرب إلينا منا، وأنه أرحم بنا منا، لكنَّه يذهب بقصد أن يعود مرةً أخرى.، ففي العام المقبل، من سيكون في عمره بقية؛ سيلتقيه مرةً أخرى، نسأل الله أن يوفقنا للاستعداد للقائه بشكلٍ أفضل عندما يعود. سيعود رمضانُ مرةً أخرى؛ لهذا السبب يترك عيدًا كهديةٍ لك لتبدأ من جديد. العيدُ، هو عيد البدء من جديد، لنعود إلى البداية؛ ولكن لتكن عودتنا بتغير وتقدم على مستوى حياتنا ومكاسبنا. الحياة تجربةٌ إلى الأمام. في الحقيقة؛ لا أحد يستطيع العودة إلى البداية، فعندما يعود إلى نفس النقطة، يعود وقد تغيَّرت أشياء كثيرة في حياته، وازداد حِمله. بعد عام؛ عندما يدرك رمضان ثمَّ العيد من بعده مرة أخرى، ستكون قد أُتيحت له الفرصة ليعرف مقدار تغيُّره. في كلِّ عامٍ؛ في الأعياد؛ يتجاهل الناس الفروقات بينهم وبين الآخرين، ومهما كنَّا وبغضِّ النظر عن عملنا أو مهنتنا أو عمرنا أو جنسنا، فإنَّنا نعودُ ونجتمعُ في المكان الذي تلتقي فيه البشرية جمعاء. يأتي رمضان ويذهب مرارًا وتكرارًا؛ ففي كل عامٍ يُذكِّرنا ويُعلِّمنا أنَّه لا الأملاك ولا الأوقات ملكٌ لنا، حتى في زمنٍ صار يُنظر فيه إلى رمضان على أنه ملكية أيضًا (سلعة ونقود) مثل كلِّ شيء آخر. إنَّ وجود الأعياد رحمةٌ ونعمةٌ تُرشد ذلك الإنسان الميَّال دائماً نحو الضلال، رحمةٌ ونعمةٌ تعمَّان الوجود؛ عسى ألَّا تغيب عنكم هذه الرحمة والبركة. * عن الجزيرة نت