12 سبتمبر 2025
تسجيلليس من قبيل الصدفة أن يعيش عالمنا العربي حالة من عدم الاستقرار خلال قرن من الزمان، انتقل خلالها من حرب إلى حرب، ومن يد إلى يد، ومن استعمار إلى استبداد وديكتاتوريات وأنظمة عسكرية، حولته إلى كتلة من النار تحرق الأخضر واليابس، وهي مرحلة بدأت مع اشتعال الحرب العالمية الأولى، وضعت الدول الاستعمارية خلالها الأسس التخريبية التي لا تزال قائمة حتى الآن.ولذلك، فإن العودة إلى البدايات تعد ضرورية من أجل فهم ما يجري في وطننا العربي حاليا، لماذا تستعر الحرب في العراق وسوريا واليمن والصومال وليبيا؟ ولماذا يستمر استعمار فلسطين؟ وكيف تم تصنيع الممالك والحكام "على المقاس"، الذي يخدم المصالح الغربية؟وبمبادرة من قسم العلوم الإنسانية في جامعة قطر تمكننا من العودة إلى البدايات أو "المرحلة المؤسسة" للحالة الراهنة في العالم العربي عبر استضافة 24 باحثا وعالما من المؤرخين المرموقين ينتمون لــ 12 دولة، في مؤتمر تم صياغة عنوانه ببراعة "الحرب العالمية الأولى وإرثها في أوروبا الشرق الأوسط.. إعادة رسم الحدود وبناء الأمم والهويات". ناقش على مدى يومين عددا من القضايا المهمة المتعلقة بالإرث والنزاعات والحدود العرقية والطائفية وإعادة تشكيل المنطقة حسب مقتضيات مصالح الدول الاستعمارية، خاصة بريطانيا وفرنسا، وهو التشكيل الذي أسس للحالة الدموية الراهنة رغم مرور 100 عام على الحرب العالمية الأولى.لا يمكن إغفال أن اتفاقية "سايكس- بيكو" البريطانية الفرنسية عام 1916 وضعت الأساس للكيانات العربية لاحقا، وواكبها وعد بلفور عام 1917، واحتلال فلسطين عام 1918 ومؤتمر سان ريمو عام 1920 الذي أنشأ نظام المحميات لشرعنة احتلال العالم العربي، وهي قضايا ناقشتها أوراق المؤتمر، إلى جانب قضايا مهمة مثل "الثورة العربية الكبرى". لقد مثلت "ثورة العرب ضد الدولة العثمانية عام 1916" أو ما أطلق عليه "الثورة العربية الكبرى" التي أعلنها حاكم مكة المكرمة الشريف حسين، منعطفا حاسما في إنشاء الشرق الأوسط الجديد، وأسهمت في إنهاء الحكم العثماني في المنطقة، طمعا بإنشاء مملكة عربية، لكن الشريف حسين تعرض لخيانة بريطانيا التي قسمت المنطقة مع فرنسا ضاربة بعرض الحائط بوعودها لحسين والتآمر عليه.وربما كانت الورقتان العلميتان "نظرة الصفوة البريطانية والفرنسية إلى الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى، والثانية "وينستون تشرشل"، وإنشاء الشرق الأوسط الحديث: علاقة المصالح الاقتصادية والدينية بالممارسات الإمبريالية"، أكثر من رائعتين وهما تلقيان الضوء على طريقة تفكير النخبة الأوروبية "البريطانية والفرنسية" للعرب والأراضي التي يسكنونها، وكيف كانوا ينظرون بخفة لهؤلاء القوم ويعتبرونهم مجرد "أدوات تافهة" وجسما هشا قابلا للقسمة والتحويل والتحوير، بل إن وزير المستعمرات البريطاني، ورئيس الوزراء فيما بعد، وينستون تشرشل عقب الحرب العالمية الأولى كان يعتقد أنه يلعب دور "الرب الخالق" في الأقاليم العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية، وتنصيب ممالك عملية لهم في العالم العربية، وقام تشرشل بتصميم ورسم خريطة الشرق الأوسط الجديدة على مقاس المصالح البريطانية، دون إغفال المصالح الفرنسية وحتى الإيطالية في ليبيا، وكيف تم رسم الحدود بين مصر وليبيا في مفاوضات ثنائية بين بريطانيا وليبيا، تماما كما تم رسم الحدود وصناعتها في بلاد الشام والجزيرة العربية في مفاوضات بريطانية فرنسية.لقد كانت نظرة القيادات الاستعمارية الغربية، إلى العالم العربي محكومة بخلطة من "السياسة والدين والمال والاستعمار والمصالح"، أرادت نهب الثروات وتفكيك الأرض وتجزئتها وزرع بذور النار في كل الأجزاء، وإقامة دولة لليهود في فلسطين، من أجل "تنفيذ مشيئة الرب" إلى جانب وضع حاجز يفصل العالم العربي في آسيا عن العالم العربي في إفريقيا، ومن أجل هذا أسست لميراث من العنف "مثل إعادة تخطيط مدينة القدس عام 1920 على أساس ديني، وكيف قرر حاكم القدس البريطاني رونالد ستورز الهوية في المدينة على أساس طائفي بما يخدم الرغبات اليهودية الصهيونية.كثيرة هي أوراق المؤتمر التي تحتاج إلى استعراض ونقاش، ويمكنني القول إن هذا المؤتمر كان واحدا من أفضل المؤتمرات التي حضرتها، علميا وتنظيميا، فقد كانت الأوراق المقدمة، علمية بحق، رغم بعض الهنات وهناك، ولكن ذلك لا يؤثر على المنتج الراقي لمؤتمر قدمت فيه أوراق علمية تحترم عقول المتلقين. وهذا يسجل لجامعة قطر وقسم العلوم الإنسانية، وبلا شك للدكتور محجوب الزويري، رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر وفريقه الرائع.