15 سبتمبر 2025

تسجيل

الجبرتي ينير العصر الراهن

15 مارس 2013

في كتابي المنشور باللغة الفرنسية في باريس سنة 2002 بعنوان (صورة الإسلام في الغرب وصورة الغرب في الإسلام) تطرقت للحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت على مصر والشام (1798-1801) والتي كانت الحدث التاريخي الأبرز في تدشين عهد الاستخراب الغربي الصليبي (المسمى ظلما بالاستعمار) في ديار الإسلام وما تبعه من احتلال الجزائر سنة 1830 ثم باقي الشعوب المسلمة حتى بلوغ الهدف الرئيسي للعنصرية الاستخرابية أي القضاء على الخلافة الإسلامية العثمانية يوم 3 مارس 1924 وبداية اقتسام ما سمي بتركة الرجل المريض بين الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية بمعاهدة سايكس بيكو (مارس 1916).. وهذه المرحلة أطلقت عليها في كتابي نعت الحملة الصليبية التاسعة بعد طي صفحة آخر الحملات سنة 1270م وهي الثامنة التي انتهت بموت ملك فرنسا لويس التاسع في قرطاج بالبلاد التونسية. ولهذه الأسباب أرى اليوم أن تاريخ عبدالرحمن الجبرتي الذي أرخ لتلك الحملة الفرنسية على مصر والذي أعيد نشره هذه الأيام في القاهرة مختصرا بفضل جهد وجهاد أحد الأبناء العلماء المتألقين، وهو الأستاذ أيمن حسن الدمنهوري حيث قام بعمل أكاديمي متميز تمثل في تسليط الأضواء على عصر الحملة وخفاياها الدولية وعلى شخصية المؤرخ الشيخ عبدالرحمن الجبرتي واختار أصلح وأثرى ما في كتاب (تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار) ليقدم لنا زبدة الزبد من هذا الأثر الأساسي في فهم الصدمة الحضارية بين الإسلام والغرب ومن أروع ما اختاره أيمن تلك التأملات الجبرتية في فلسفة الحكم وشروط الصلاح في ممارسة السلطة ونكتشف أن الجبرتي سبق الكواكبي في إدانة الاستبداد حين قال: "فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق وأطاعه الخلق وصفت له النعمى وأقبلت عليه الدنيا فتهنأ بالعيش واستغنى عن الجيش وملك القلوب وأمن الحروب وصارت طاعته فرضا وظلت رعيته جندا لأن الله تعالى ما خلق شيئا أحلى مذاقا من العدل ولا أروح إلى القلوب من الإنصاف ولا أمر من الجور ولا أشنع من الظلم". لو تقرأ أخبار ثورة القاهرة ضد الاحتلال الفرنسي (22 إلى 24 أكتوبر 1789) من جانبين متضادين عايشا تلك الأحداث وكانا شاهدي عيان عليها أي بقلم الجبرتي المصري العربي المسلم وبقلم المؤرخ الفرنسي المسيحي (فيفان دينان) الذي شارك بسلاحه أيضا في قمع الثورة فهو نفس الجدل القائم اليوم سنة 2013 حول مصطلحات الإرهاب والمقاومة والهوية والعلاقة بين الدين والسياسة. فقد ثار شباب القاهرة وقتلوا الجنرال (ديبويه) وعددا من ضباطه ثم انتقم الجيش الفرنسي بعشوائية فأعدم عشرة علماء من الأزهر الشريف وجاء بعد ذلك اغتيال قائد الحملة الجنرال (كليبر) الذي نفذه أحد شباب الشام (سليمان الحلبي) والذي تم قتله بطريقة وحشية لإعطاء المثل وترهيب الشعب. إنها جدلية دائمة حين تنتفض الجماهير فأقرأ وصف الاستعداد للثورة على لسان عبدالرحمن الجبرتي يقول (ص304): "ولما أشيع في الناس كثر لغطهم واستعظموا ذلك والبعض استسلم للقضاء فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا في ذلك ووافقهم على ذلك بعض المتعممين (لاحظوا عبارة الجبرتي: المتعممين لنعت مشايخ الأزهر اليوم يطلق العلمانيون على المتدينين نعت الملتحين!) فتجمع الكثير من الغوغاء (لاحظوا كذلك نعت الجماهير بالغوغاء) من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم". أما المؤرخ العسكري الفرنسي الذي رافق الحملة (فيفان دينون) فكتب عن نفس هذه الانتفاضة فقال: "نجحنا في غزو القاهرة ولكن الفرنسيين في عيون سكان القاهرة ليسوا سوى كفار غزوا دار الإسلام ولذلك تحول التمرد إلى انتفاضة شعبية بسرعة فائقة محركها الأساسي هو التعصب الديني الذي جمع الغوغاء بسبب بعض الإجراءات الإدارية الفرنسية فكانت حركة التمرد دينية بالأساس قادها أعتى المتطرفين واستهدفوا الفرنسيين من أجل تحرير القاهرة". من خلال النقل المباشر (كما يقال اليوم في لغة الفضائيات) لرجلين عاشا تلك الأيام من جانبين متضادين نتبين أنهما اتفقا كل بمنطقه الخاص ومن زاويته القيمية والدينية أن كل احتلال تقابله مقاومة وهذه هي العبرة التي لم يعتبر بها الاستعمار بل نرى اليوم وبعد قرون أن نفس القوى الاستكبارية العنصرية المتطرفة تخطط لفرض وجودها وخدمة مصالحها وسلب ثروات الشعوب المستضعفة بعمليات عسكرية جديدة تعيد نفس سيناريوهات الحملة الفرنسية على الشرق ولكن بتغيير الديكور الدبلوماسي وتبرير التدخل العسكري بشعارات مبتكرة مثل مقاومة الإرهاب (ألم يبرر بونابرت حملته بمقاومة المماليك؟ ولم يبرر ملك فرنسا احتلاله للجزائر سنة 1830 بمقاومة القراصنة وأبعد من ذلك في التاريخ ألم يبرر البابا يوربان الثاني سنة 1095م تجنيد الصليبيين ضد المسلمين بتعلة إنقاذ أكفان السيد المسيح من أيادي المسلمين في القدس؟ وحين نواصل مطالعة مختصر كتاب الجبرتي نكتشف أن مجهود ابننا الفاضل أيمن حسن الدمنهوري كان موفقا بارك الله في قلمه وعقله وبأن هذه الاحتلال الفرنسي لمصر لم يدم سوى ثلاثة أعوام فبدأ مع بونابرت شخصيا ثم غادر مصر ليلتحق بعاصمته باريس ويشارك في مناورات السلطة وترك قيادة جيشه للجنرال كليبر الذي اغتيل على أيدي الإسلامي سليمان الحلبي وأمسك بالقيادة بعده الجنرال مينو الذي تعلم العربية ويقال إنه أسلم وتزوج من امرأة مصرية.(وأرجو من المتخصصين الكرماء أن ينيروا سبيلي في شأن مينو هذا)، ويرمز هذا التاريخ الغريب إلى أن شعب مصر انتصر على الحملة بينما اندحرت جيوش فرنسا بهزيمة حضارية لم يعتبروا بها وقديما قال الإمام علي كرم الله وجهه: "ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار".