11 سبتمبر 2025
تسجيللم تصل البشرية عبر كل تاريخها إلى مرحلة أدنى من مرحلة الانحطاط التي نعيشها اليوم، فبرغم كل ما توصلت إليه عبر ثورات التقانة وغيرها، التي من المفترض أن تكون في خدمة الإنسانية، نجدها انقلبت وبالاً إلى عصر التعرّي الأخلاقي والمصلحة الفجّة والصفاقة الفاقعة: حرق الطيار معاذ الكساسبة نموذجاً، وحرق البوعزيزي لنفسه نموذجاً آخر، والنماذج كثيرة ومتعددة، غير أن ما يستوقفنا هو حالة المقارنة بين حارق لنفسه ومحروق بغيره. لقد أشعل البوعزيزي أوار الثورات العربية المتعاقبة عن غير قصدٍ منه سوى تحميل الديكتاتور «البطل» مسؤولية موته، لم يكن بطل نفسه، بل بطل غيره، وهذه البطولة لم تكن لتوجد لو لم تقترن بموته، أما معاناته وموته النفسي والروحي فلم يكن ليهمّ أحداً، وهذا ما جعل الطاهر لبيب يصفه بـ»ضديد البطل»، عندما يشرح ذلك بأن «الضديد» أقل التباساً من الضد والمضاد، وفيه «الخلاف والمثل» كما يقول اللسان، وهو المعنى المطلوب المُراد إيصاله، فالبطولة تقع فيما أشعله موت جسد هذا الرجل وليس في بطولة حياته التي لم تتسنَّ له ليشهد بطولة ذاته فيما حققته بغيابه، وبمعنى آخر فإن البوعزيزي كحامل مختلف عن محمول البطل الديكتاتور، فهو ضد له، لكنه يحمل معنى مضاداً لقيمة البطولة، فيكون مختلفاً في الماهية ومتماثلاً في فعل البطولة. الطيار معاذ الكساسبة، إن صدق التصوير والإخراج اللذان يحملان في طياتهما رسائل عديدة تفيد أولاها بأن المنفذين يمتلكون تقنيات عصرية حديثة جداً هدفها الإيحاء بإزالة قشرة التخلف الماضوي عنهم إلى حداثة مدروسة محمّلة بالتهديد والوعيد، أُحرق ليس لخلق ضديد آخر وحسب، بل لأنه ما من بطل الآن يريد أن يشهد ما آلت إليه ظروف الحرب العالمية الثالثة المركبة، التي تشتعل ببطء على أرضنا، موجهةً بأضداد متصارعة في العلن ومتفقة في الخفاء على اقتسام ثرواتنا، وتكريس تبعيتنا، وجرنا إلى الحروب المفتعلة، وإشعال المنطقة تمهيداً لاقتسامها وتصريف مخزونهم من مصنوع الأسلحة وتجريب الجديد منها، فنحن نُشكل سوقاً استهلاكية كبيرة لمنتوجهم، تماماً كما شكّلوا جاهزيةً للتقسيم والتفتيت والتجزئة، وما نشهده الآن من صناعة لضديدي الأبطال هو ما يُسرّع بالتنفيذ.