11 سبتمبر 2025
تسجيلالدرس العظيم قدمته دولة جنوب أفريقيا يوم الخميس الماضي على لسان رئيسها سيريل رامافوزا: «لم أشعر قطّ بالفخر الذي أشعر به اليوم. يقول البعض إن الخطوة التي اتخذناها محفوفة بالمخاطر، نحن بلد صغير ولدينا اقتصاد صغير، قد يهاجموننا، لكننا سنظل متمسكين بمبادئنا. ولن نكون أحراراً ما لم يتحرر الشعب الفلسطيني». وهذا درس نادر على صعيد العلاقات بين الدول ولكنه ليس كذلك بالنسبة للنضالات الوطنية. ولجنوب أفريقيا تاريخ مشرف في النضال ضد واحد من أبشع الأنظمة العنصرية في التاريخ، إذ خاضت معركتها على مدى عقود من الزمن مستخدمة كل الوسائل والأساليب في سبيل تحررها. خرجت جنوب أفريقيا من المعركة أخيراً ليس منتصرة وحسب، ولكن أيضا متسامية على جراحاتها الإنسانية الشخصية والعامة. لم تضيع من وقتها دقيقة واحدة بالانتقام، أو العودة إلى الوراء بل مضت مسرعة إلى تضميد الجرح العميق وإعادة بناء الدولة على أنقاض العنصرية البغيضة بالمزيد من الإصرار على التمسك بالمساواة بين جميع أفراد الشعب، حتى أولئك الذين كانوا أدوات العنصرية وجنودها. ويبدو أن هذا التسامي الإنساني الدولي النادر في السياسة قادها للمزيد من الاهتمام بالمضطهدين بكل مكان، وجعلها تصر على الالتفاف لكل الشعوب التي تتماهى بشكل أو بآخر مع تجربتها في المعاناة من الاضطهاد العنصري، وعلى رأس تلك الشعوب الشعب الفلسطيني، فتعاطف جنوب أفريقيا مع فلسطين قديم تشهد عليه مواقف زعيمها التاريخي العظيم نيلسون مانديلا في كل فرصة أتيحت له في الدفاع عن حرية فلسطين. خطوة جنوب أفريقيا الأخيرة، غير المسبوقة والمفاجئة للعالم كله، بجرجرة حكومة الكيان الصهيوني إلى محكمة العدل الدولية رغم أنفها تأتي إذن في سياق تاريخها المشرف على هذا الصعيد وكقيمة مضافة لمعركتها الخالدة والأزلية ضد العنصرية، وهذا ما حدث. عندما أعلنت حكومة كيب تاون نيتها رفع دعوى ضد الكيان الصهيوني قبل أسابيع قليلة، لم يدرك كثيرون مدى جديتها في الأمر، واعتبروه تصريحاً سيذهب كغيره أدراج الرياح، لكن أحفاد مانديلا فعلوها، فأدخلوا بلادهم التاريخ من أنبل أبوابه. فهم ليسوا عربا وليسوا مسلمين وليسوا جيرانا لفلسطين ومع هذا انتصروا لها انتصارا للإنسانية في معناها السامي. وما زاد من قيمة هذا الانتصار أن جنوب أفريقيا لم تتعامل معه شكلياً أو استعراضيا لتضيفه إلى سيرتها الذاتية وحسب بل تعاملت مع القضية بمنتهى الجدية والاحتراف، فقد استعد فريقها القانوني جيدا لمعركته القضائية ليس لأن الأدلة على ارتكاب دولة الكيان الصهيوني لجريمة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة كثيرة ومتوفرة وهي جريمة حية ومستمرة وما زال العالم يشاهدها على الهواء مباشرة وحسب، ولكن أيضا لأنهم ينتمون لبلد لديها خبرة تاريخية متراكمة في هذا النوع من القضايا، وهم فعلا كسبوا نصف القضية بمجرد أن أرغموا الحكومة الإسرائيلية على الذهاب للمحكمة، وهي التي كانت تهرب دائما من أي إجراء قضائي دولي متكئة على مساندة الحكومات الأمريكية لها في كل رفض. هذه المرة لم تجد بدا من الخضوع لإجراءات المحاكمة الدولية أمام المجتمع الدولي كله، ومحاولة الدفاع عن نفسها والرد على الاتهامات المدعمة بالأدلة والصور والتصريحات التي كالها لها فريق جنوب أفريقيا. ورغم أن المحكمة لم تصدر حكمها بعد، أي حتى ساعة كتابة هذا المقال، إلا أن المهم هو تحقق الخطوة الأولى والتي أكدت أن شعوب العالم يمكن أن تعيش بسلام لو سادت فكرة العدالة بين الجميع. أما أن يعربد الطرف الأقوى ضد صاحب الأرض والحق، بمساندة الفيتو الأمريكي، فهذا لا يعبر سوى عن شريعة الغاب!