11 سبتمبر 2025
تسجيلقبل حين ليس ببعيد من الزمان، التقيت صديق طفولة يعمل في مركز مرموق بدولة خليجية، وأول ما لفت انتباهي في شخصيته، هو عدم مقابلته لاندفاعي العاطفي لتحيته باندفاع مماثل؛ يعني تعامل معي ببرود لا يخلو من «القنزحة» والعنطزة، فعندما حاولت لقاءه بالأحضان السودانية المعهودة وضربه على ظهره بباطن كفي حتى تتفتح شعب صدره الهوائية، مد إلي يده من بعد بطريقة خواجاتية، وهو يقول: هاو آر يو؟ وتصنعت البلاهة وسألته: نسيت اسمي يا صاحبي؟ أنا مش «هاو» فلماذا تخاطبني ب»هاو .. يو»؟ ورغم انني كنت أغلي داخليا من الغيظ، إلا أنني لم أظهر له أي استياء، فخلال ثوان قليلة كنت قد عقدت اجتماعا مع نفسي قررت فيه شطبه من قائمة معارفي بعد القيام بواجب الضيافة، ولا أحزن عادة لفقد صداقة أو زمالة أي شخص مغرور، أو يمارس الاستعلاء على الآخرين بسبب وجاهة افتراضية، كسبها من المنصب او الراتب او النسب، بل أجتهد في مرمطته ببرود، وأمارس عليه غطرسة تجعله في منتهى التواضع أو الضعة. وكما يليق بسوداني ابن بلد، لم أتردد في دعوته إلى العشاء، وتعمدت ألا تكون الدعوة في بيتي، حتى يدرك أنه ليس موضع ترحيب فيه، ودعوت معه أصدقاء مشتركين، عرفت أنهم كانوا على علم بالتحول الذي طرأ على شخصيته، وكانت الدعوة في مطعم من الدرجة الثالثة متخصص في بيع الفول وملحقاته، مع كميات خرافية من الشطة والبصل والمخللات، ولك أن تتخيل مقدار سعادتي وأنا أرى الضيق على وجهه عندما رأى حال المطعم البائس، الذي كانت القطط (ويظهر أنها كانت من الصنف النباتي)، تتجول فيه بين الطاولات، وكما لا يليق بمضيف فإنني لم أترك له حرية اختيار الطعام – بالأحرى لم تكن هناك أصلاً خيارات – فكلفت الجرسون بأن يحضر لنا عدة أطباق من الفول والطعمية (لم أقل الفلافل) والمخلل والبصل والحمص والجرجير والفجل، وهي لعلم من لا يعلم فعالة جدا في تهييج القولون وتوليد الغازات السامة، وكان «شكل» صاحبي وهو يستمع إلى تلك الطلبات «يحنن قلب الكافر»، وأعجبني فيه أنه لم يتنازل عن كبريائه، فقد طلب من الجرسون أن يأتيه بشوكة وسكين، ولسوء حظه كان الجرسون مصرياً لسانه متبرَّئ منه، فقد صاح فيه: هو البيه طالب فول مشوي، وللا ستيك طعمية، وللا فجل بالبشاميل؟ ثم زوده بمعلقة، وتناول الرجل بعض الفول بالملعقة وهو ينظر إلى الخبز «البلدي» الأسمر بتقزز، وهو يكاد يبكي. وبصراحة، فقد رأفت لحاله، فخرجنا من المطعم إلى مقهى محترم وانضم إلينا هناك مزيد من أصدقائي، وتناول الرجل بعض المعجنات الفاخرة ليمسح بها آثار الفول الذي تناوله على مضض، وشرب بوكاتشينو او شيئا من هذا القبيل، وتبسط معنا في الحديث، وكان جل حديثه عن منصبه وأثاث بيته وجولاته الخارجية، وبنته التي نالت الماستر وتسعى لنيل ال»بي إتش دي» من جامعة أوروبية، ثم سألنا عن أفضل محل مجوهرات في المدينة «لأن من عادته أن يعود إلى زوجته بعد كل سفرة بهدية ثمينة»، هنا ندمت لأنني لم اصطحبه للعشاء في كشك كومار الواقع جوار مدرسة البنين الثانوية، وكان قد أُعيد افتتاحه بعد إغلاق دام شهرين، بعد أن تسمم بعض الطلاب من الوجبات الملوثة التي قدمها لهم كومار، المتخصص في علاج الإمساك المزمن، فسندويتش كيما واحد تشتريه منه يضمن لك نقيض الإمساك خلال دقائق، ومن ثم فإن سندويتشاته نموذجية للشخص المتغطرس من النوع الذي شبع بعد جوع طويل ولم يحمد الله، وحسب أن المنصب الطارئ الذي حصل عليه مما وفر له راتباً عاليا، يخول له نسيان جذوره و»ساسه» وأساسه، والتعالي عن الآخرين. وفي الأسبوع المقبل بمشيئة الله أحدثكم عن ممارساتي السادية لمسح أنف صاحبي المتغطرس بالأرض! [email protected]