11 سبتمبر 2025
تسجيلعشت حياتي محباً للفلسفة، وحين التحقت بكلية الآداب كان يمكن أن أدرس بأي قسم من أقسام اللغات المختلفة، لكني كنت أريد أن أفهم ما وراء العالم، حكاية طويلة تحدثت عنها في بعض كتبي. مما أثارني أفكار الفيلسوف اليونانى زينون الإيلي، أي زينون من جزيرة إيليا. وكان من الفلاسفة ما قبل سقراط، كان من أفكاره براهين على عدم وجود الزمان والمكان والحركة، فأنا أكتب الآن وتمر الثواني والدقائق وتصبح ساعات، فأين هو الزمن الذي يمكن أن أمسك به، وأنا أسكن في بيت في شارع في حي في مدينة في عالم، فأين هو المكان. أثارني برهانه على عدم وجود الحركة. فأنت مثلا تطلق السهم ليصل إلى هدفه، وحتى يصل لابد أن يقطع نصف المسافة. وكي يقطع نصف المسافة لابد أن يقطع نصف نصف المسافة، وكي يقطع نصف نصف المسافة عليه أن يقطع نصف نصف نصف المسافة، وهكذا لكل نصف نصف فالسهم لا يغادر مكانه. طبعا هناك نظريات في علم الرياضيات نشأت من هذه الأفكار. لكن المهم أنني كنت كلما ادلهمت الأمور حولي أتذكر برهانه على عدم وجود الحركة، فيستريح البال. خدعة نفسية جعلت عنوانها العودة إلى زينون. هذه الأيام أرى الانتخابات الرئاسية حولي في مصر، أرى البسطاء الذي يجمعونهم بالسيارات، بعضهم فقراء نظير المال، وبعضهم موظفون يتم إجبارهم على ذلك، وللأسف تعج السوشيال ميديا بالفيديوهات. لكن كل ذلك لم يعد يشغلني.. هنا أعود إلى زينون لأرتاح وابتسم فلا فائدة في أي كلام. أترك الأمر للقدر رغم غرامي بالمعتزلة أهل الاختيار لا الجبر، خاصة أنها ليست أول مرة، هو تاريخ منذ عصر الانقلابات الذي بدأ مع انقلاب حسني الزعيم في سوريا في نهاية أربعينيات القرن الماضي، ثم انقلاب يوليو 1952، وما بعدها في دول كالعراق واليمن وليبيا. زينون كان منقذي دائما. هذه المرة أرى حولي ما هو أهم من الانتخابات، وأعني به ما يحدث في غزة. ما يحدث في غزة يضرب بكل أفكار زينون عرض الحائط. في غزة حركة وفي غزة زمان لن ينساهما أحد، ومكان مهما تهدم لا يمكن أن تعتبره غير موجود، فقليل من الإنسانية سيهاجمك حتى في الأحلام. زينون في إجازة الآن عن روحي. وجدت منشور على إكس بعنوان صوتي لفلسطين كتبت فيه، صوتي لفلسطين أمس واليوم وغدا. إنها ليست قضية دولة، لكنها قضية الأمة العربية والإنسانية. أعرف طبعا أن من اقترح هذا الهاشتاج يريد أن يقول إنه هنا الأصوات الحقيقية لا الانتخابات، لكني تغافلت عن المعنى الضمني، وتركت الانتخابات مع زينون. غزة تتحدى أفكار زينون بل وأفكار الوجودية التي ترى العالم لا معنى له، والتي جاءت منها فرق البيتلز الإنجليزية ومغنية وجودية وممثلة شهيرة مثل جولييت جريكو الفرنسية وغيرهما كثير جدا. تطورت الوجودية حين غزت ألمانيا فرنسا ووجد الوجوديون حلا في التزاوج مع الأفكار المادية، وانخرطوا مع غيرهم في النضال ضد النازي. هكذا البشر وقت الراحة يجدون العالم لا معنى له، لكن في الأزمات يتحدون صانعيها. الآن قسّمت زينون بين مصر فهو موجود، وبين غزة هو خارج الحقيقة. فالزمان موجود لن يُنسى، والمكان يشغل العالم، والحركة لا تنتهي إلى الأمام رغم الآلام. تهاوت كل الأفكار الفلسفية المريحة لي، وتأسفت لزينون قائلا دعك معنا في مصر، لكن في غزة لا مكان لك، واعذرني يا من أرحتني العمر كله مما يحدث في مصر، لكن في غزة هناك أمل يملأ الفضاء.