12 سبتمبر 2025
تسجيلشهدت السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في استخدام الوساطة كأداة فعّالة لتسوية المنازعات المدنية والتجارية في العديد من الدول، وذلك نظرا لما حققته الوساطة من نتائج إيجابية في حل وتسوية تلك المنازعات، لاسيما المتعلقة منها بالقطاعات التجارية والمالية والاستثمارية و الإنشائية. و تتّسم الوساطة باعتبارها وسيلة من الوسائل البديلة لتسوية المنازعات بعدة مزايا، حيث إنها توفر مُلتقى للخصوم المتنازعة للاجتماع، ومناقشة كافة نقاط الخلاف، وتبادل وجهات النظر المختلفة بهدف التوصّل إلى حل وتسوية النزاع بطريقة رضائية ومقبولة لطرفي الخصومة، ناهيك عن أن الوساطة تحقق مصالح مشتركة أخرى لطرفي النزاع تتمثل في توفير الوقت والجهد والمال، بالإضافة إلى إعطاء الفرصة للأطراف لتجاوز الخلافات، واستئناف الأعمال، والمحافظة على استمرارية العلاقات المهنية والتجارية والمالية القائمة فيما بينهم. وتُعرّف الوساطة اصطلاحا باعتبارها أداة لتسوية المنازعات بأنها عملية اختيارية يتم من خلالها التوصّل إلى حل ودّي للنزاع بين الأطراف المتخاصمة، من خلال المساعدة المقدمة من شخص محايد يسمى الوسيط، والذي يهدف إلى تقريب وجهات نظر الأطراف المتنازعة، واقتراح الحلول المناسبة والكفيلة بحل النزاع بصورة مُرضية، ومن دون إرغام الأطراف على قبول حلٍ معينٍ بذاته، حيث إن التسوية النهائية للنزاع يجب أن تكون نابعة من الإرادة المشتركة للأطراف، ومن دون أي إملاءات من قبل الوسيط. وقد أدى استخدام الوساطة في الدول التي وضعت التشريعات الناظمة إلى تخفيف العبء و الضغط الملقى على كاهل المحاكم، حيث تلاحظ بأن الأفراد والشركات في تلك الدول باتت تفضل استخدام الوساطة لتسوية منازعاتهم بعيدا عن ساحات المحاكم، نظرا لما توفره من سرعة في حل المنازعات بالمقارنة مع إجراءات الدعاوى القضائية والتي تأخذ غالبا وقتا طويلا لتسوية المنازعات بالمقارنة مع إجراءات الوساطة، الأمر الذي انعكس ايجابا على القطاع العدلي وأدى إلى دعم تحقيق العدالة الناجزة، و ترسيخ العدل، واستقرار المراكز القانونية والاجتماعية والاقتصادية للأطراف المتنازعة. وقد استشعرت محكمة قطر الدولية أهمية نشر فكر الوساطة في دولة قطر كأداة فعالة لتسوية المنازعات، وذلك نظرا لآثارها الايجابية في دعم العدالة الناجزة في الدولة من جهة، وتعزيز مواكبة التطورات المتسارعة المتعلقة بآليات تسوية المنازعات من جهة أخرى. وبناء على ذلك، أصدرت محكمة قطر الدولية مؤخرا القواعد الناظمة لإجراءات الوساطة في المنازعات المدنية والتجارية والتي تسري على الوساطة القضائية، وعلى الوساطة الاتفاقية. وتتسم القواعد الجديدة للوساطة بمرونتها وسهولة تطبيقها. وقد بيّنت القواعد الحالات التي يجوز فيها اللجوء إلى الوساطة لتسوية النزاعات القائم فيما بين الأطراف المتنازعة، إذ بينت القواعد بأنه يجوز لمحكمة قطر الدولية أو محكمة التنظيم أن تقرر من تلقاء نفسها بإحالة النزاع المنظور أمامها إلى الوساطة أثناء سير الدعوى، شريطة عدم اعتراض أي من طرفي الخصومة على ذلك. ويترتب على تلك الإحالة وقف سير إجراءات الدعوى خلال المدة التي تحددها المحكمة. ويجوز كذلك أن يتفق طرفا الخصومة على إحالة النزاع القائم فيما بينهم إلى الوساطة. كما يجوز ايضا إحالة النزاع إلى الوساطة بناء على طلب يقدمه أحد الاطراف إلى قلم كتّاب محكمة قطر الدولية، و من دون اعتراض أو رفض من قبل الطرف الآخر. وقد نصت القواعد بأن تكون إجراءات الوساطة بالطريقة التي يراها الوسيط ملائمة ومناسبة لحل النزاع. وبناء على ذلك يجوز للوسيط تحديد مواعيد جلسات الوساطة، ومكان انعقادها، وتحديد إجراءاتها. كما حددت قواعد الوساطة الضوابط التي يتوّجب على الوسيط التقيد بها أثناء قيامه بالوساطة وبعد انتهائها. ويحظر على الوسيط الإفصاح عن أي معلومات متداولة في أي دعوى قضائية أو تحكيمية، مالم يكن ذلك لازما بمقتضي القانون، أو بموجب اتفاق الأطراف. وإذا ما اتفق أطراف الخصومة على الأخذ بأحد الحلول المقترحة من قبل الوسيط، فيجوز للوسيط في تلك الحالة أن يقوم بتوثيق التسوية وإثبات ما اتفق عليه الخصوم بمحضر الجلسة. كذلك فقد حددت القواعد الرسوم المقرة لطلب الوساطة المودع في قلم كتّاب المحكمة، وآلية اختيار الوسيط وشروط تعيينه، والإطار العام المنظم لأتعابه، و الجهة أو الطرف المكلف بسدادها. ويلاحظ المتأمل في قواعد الوساطة الجديدة الصادرة عن محكمة قطر الدولية بأنها وسعت من مجال الوساطة لتشمل جميع الدعاوى المنظورة أمام محكمة قطر الدولية وجميع الدعاوى المنظورة أمام محكمة التنظيم والتي تكون ضمن اختصاصهما. وأخيرا فقد بيّنت قواعد الوساطة حالات انتهائها، اذ تنتهي الوساطة إذا ما تم توّصل طرفي النزاع إلى تسوية نهائية للنزاع، أو إذا أبدى أحد طرفي الخصومة أو كلاهما الرغبة في انهاء إجراءات الوساطة، أو إذا ما تبين للوسيط بأنه لا جدوى من الاستمرار في إجراءات الوساطة. وقد اشترطت القواعد بأنه يجب أن يكون اتفاق التسوية مكتوبا وموقعا من قبل الأطراف. وفي جميع الحالات يجب إخطار المحكمة فور انتهاء إجراءات الوساطة. وتجدر الاشارة إلى أنه قد سبق وأن تناولت القواعد الإجرائية للمرافعات المدنية والتجارية لدى محكمة قطر الدولية، موضوع الوساطة الاتفاقية والوساطة القضائية بطريقة غير مباشرة، إذ أجازت القواعد الإجرائية للمحكمة وقف إجراءات سير الدعوى للسماح للأطراف بمحاولة تسوية خلافاتهم من خلال أي وسيلة من الوسائل البديلة لحل المنازعات. كذلك فقد أجازت القواعد للمحكمة بأن تقضي بإحالة النزاع المعروض امامها الى الوساطة بناء على طلب أطراف الدعوى، لمحاولة التّوصّل إلى تسوية رضائية للنزاع القائم فيما بينهم. وقد بيّنت محكمة قطر الدولية الشروط الواجب استيفاؤها من قبل الوسيط لقيده في سجل الوسطاء بالمحكمة. ومن أهم تلك الشروط تعهد الوسيط الالتزام بالحياد والنزاهة، وعدم إفشاؤه لأي معلومات سرية يطلع عليها بحكم قيامة بأعمال الوساطة مالم يكن إفشاؤها لازما بمقتضى القانون. ومن المنتظر بأن تساهم القواعد الجديدة للوساطة في تعزيز العدالة الناجزة بالدولة، وتشجيع الاطراف المتنازعة على احالة نزاعاتهم الى الوساطة بعيدا عن المحاكم نظرا للمزايا والفوائد العديدة التي توفرها الوساطة للأطراف والتي سبق وأن أشرنا إليها.