13 سبتمبر 2025
تسجيلمن يقرأ افتتاحية (نيويورك تايمز) بقلم (دان بيلفسكي) الأسبوع الماضي (9 ديسمبر 2011) يصاب مثلي بالدهشة... و بالاعتزاز في ذات الوقت. فالكاتب تحدث عن تركيا الصاعدة ودورها المتنامي في الشرق الأوسط ومعجزتها الاقتصادية بنسبة نمو سنوي لـ2010 بلغت 7.5 % ( مقارنة بمعدل الاتحاد الأوروبي 1.5 %) ويعلن الصحفي الأمريكي حرفيا بأن "تركيا لم تعد تحتاج إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي بل إن الاتحاد الأوروبي هو الذي يحتاجها اليوم". ويضيف الكاتب في نوع من الشماتة ضد أوروبا قائلا: " إن القارة العجوز تتخبط في أزمات اليورو ومخاطر الإفلاس في حين تنهض تركيا بقيادة تلاميذ نجم الدين أربكان وكاريزما رجب طيب أردوغان وتصبح لاعبا أساسيا في الشرق الأوسط ومثلا يحتذى للأنظمة العربية القادمة بعد الثورات. ويؤكد السيد (دان بيلفسكي) بأن الشعب التركي لم يعد متحمسا لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي ( 30% مؤيدون عام 2010 مقابل 73% عام 2000). وحين نعود لتاريخ المفاوضات الأسطورية الطويلة بين أنقرة وبروكسل والقرارات البهلوانية للقمة الأوروبية المجتمعة في بروكسل كل ديسمبر من كل عام في شأن بداية المفاوضات بين الجمهورية التركية والاتحاد الأوروبي، نتيقن بأن هذه المفاوضات التي يفترض أن تؤدي إلى بداية قبول تركيا عضوا كامل الحقوق والواجبات في الاتحاد، أو إلى إمكانية الاكتفاء بتحديد نمط من التعاون المميز مع تركيا دون فتح باب العضوية هي في الحقيقة مفاوضات تمويه وتسويف. ولتركيا مع أوروبا قصة قديمة لا بد من معرفتها لفهم أحداث اليوم: أولا، كانت الحروب والأزمات الطويلة بين الخلافة العثمانية والإمبراطوريات الأوروبية هي التي تشكل التاريخ الغربي منذ فتح القسطنطينية وهي عاصمة الإمبراطورية البيزنطية واسطمبول اليوم على أيدي محمد الفاتح سنة 1453م إلى الحرب العالمية الثانية. فكانت الملاحم والأغاني الشعبية في التراثين الأوروبي والتركي تغذي الخيال والملاحم وتنشد البطولات وتحدد بالتالي السياسات، لأنه مثلما كان يقول أستاذنا في السربون العلامة، كلود ليفي ستراوس: "لا سياسات منقطعة عن جذورها الأسطورية منذ بدء التاريخ إلى يوم الناس هذا" وكل من يقرأ أحداث المصادمات بين الغرب المسيحي والشرق المسلم يكتشف بأن التاريخ الأوروبي بدأ من خسارة الغرب للقسطنطينية التي كانت تسمى بيزنطة وهي الجناح الثاني للديانة المسيحية في شكلها الأورتودكسي. وجاء بعد ذلك الحصار الشهير الذي ضربه السلطان العثماني على مدينة فيينا، عاصمة الإمبراطورية البروسية آنذاك وعاصمة النمسا اليوم، حيث تم تهديد أوروبا للمرة الأولى بعد انتهاء الحروب الصليبية، وحتى مع فشل الحصار وعودة الجيش العثماني إلى مواقعه عام1683، فإن العداء ظل مستحكما بين القطبين والنار كانت دائمة التوهج، بل اشتعلت عديد المرات كما في حرب القرم وفي البحر الأبيض المتوسط، عندما كانت الدولة العثمانية تدافع عن الثغور المغاربية والمصرية والشامية ضد حملات الأساطيل الأوروبية ( ولمعرفة بطولات البحرية الإسلامية يجب مطالعة تاريخ خير الدين بربروسة المجاهد البحار الذي كان الأوربيون إلى عهد قريب يخيفون باسمه الأطفال ليناموا!) بل كانت لا تخرج سفينة فرنسية أو إسبانية أو إيطالية من مرافئها إلا بعد الحصول على إذن بربروسة في القرن السادس عشر. وإني عرجت على هذه الفصول التاريخية للتأكيد على أن العلاقات بين تركيا وأوروبا لا تخضع اليوم فقط للمصالح ومستحقات التعاون والسلام بل توزن في أوروبا بميزان هذه المسلسلات من التصادم والمواجهة عبر القرون، وحتى التاريخ الحديث لم يسلم من هذه الاعتبارات، لأن الاقتسام الحالي للشرق الأوسط في معاهدة سايكس بيكو لم يكن ممكنا إلا بعد القضاء الحاسم على الإمبراطورية العثمانية التي كان الغربيون يطلقون عليها نعت "الرجل المريض في أوروبا" والذي يصح اغتنام تركته بتقطيع أوصاله إلى دول مستقلة، لم يكن استقلالها في الواقع إلا صوريا، لأنها رزحت منذ ذلك التاريخ تحت نير الاستعمار الأوروبي، وتم إنشاء دولة يهودية وزرعها في قلب الشرق العربي، مباشرة بعد جلاء القوات العثمانية من الجزيرة العربية بمؤامرات شهيرة للجاسوس البريطاني لورنس العرب عام 1917، خلدها في كتابه: أعمدة الحكمة السبع. والغريب أن الكاتب الأمريكي في افتتاحية (نيويورك تايمز) التي أشرت إليها قال الأسبوع الماضي بأن الرجل المريض اليوم سنة 2011 هو أوروبا نفسها والرجل المتعافي هو تركيا. ولا غرو بالنظر إلى هذه العواصف القديمة العاتية أن يطرح ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي سيلا من التخوفات والترددات والأشباح النائمة التي تستدعى اليوم للاستشارة والمساءلة، على خلفيات التاريخ وتحديدا على خلفيات أساطير التاريخ وبقايا الأوهام الكامنة في الخيال الشعبي الأوروبي إزاء الحضور الإسلامي في قلب أوروبا من خلال أن تصبح الجمهورية التركية عضوا بالاتحاد الأوروبي كامل الحقوق والواجبات. والغريب أن كل ما قامت به تركيا الحديثة من استئصال الخلافة العثمانية واجتثاث المقومات الإسلامية المؤسسة للدولة منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك إلى اليوم لم يشفع لتركيا لدى الغرب، لأن الغرب لا يغفر التاريخ لخدمة الجغرافيا إذا صح التعبير. فتركيا اتخذت لنفسها منذ 1924 قوانين سويسرا، وألغت الكتابة بالحروف العربية واستبدلتها بالحروف اللاتينية ومنعت الجلباب والحجاب والطربوش، مستعيضة عنها بالقبعة الفرنسية، وغيرت القوانين الشرعية فمنعت تعدد الزوجات، وحولت المساجد إلى متاحف، ثم أضاف عصمت اينونو رئيسها بعد أتاتورك إلى كل ذلك الدخول إلى عضوية حلف شمال الأطلسي وإلى السوق الأوروبية المشتركة منذ العام 1963، وازدادت تركيا التحاما بالغرب، فاعترفت بإسرائيل، وتخلت عن كل التزاماتها حتى في كنف القانون الدولي في قضية الشرق الأوسط. كل هذه التنازلات لم تشفع لتركيا التي تجد نفسها الآن أقل حظوظا من مولدا فيا أو أرمينيا أو جورجيا. ولا يتردد المراقبون الأوروبيون في التصريح بأنه لا مجال للنفاق السياسي والتلميح لأن السبب الرئيسي للاعتراض على انضمام تركيا هو الإسلام ثم الخوف من أن تصبح حدود الاتحاد الأوروبي في تماس مع إيران والعراق وسوريا. وهنا لا بد من أن أذكر لكم ما قاله الزعيم التركي المرحوم أربكان: " بصراحة أفضل مكانتنا كالأولين بين المسلمين على وضعنا كالأذيال بين الأوروبيين".