31 أكتوبر 2025

تسجيل

المصارحة والمناصحة

14 نوفمبر 2019

من جميل الخصال وعظيم السجايا التي يتحلَّى بها الإنسان الصراحة والنصح، وهما من الخصال المتلازمة فتحتاج كل منهما إلى الأخرى لتعمَّ الفائدة وتُثمر النصيحة بنتيجة نافعة بإذن الله تعالى. ونظرًا لأهمية هاتين الخصلتين في الحياة اليومية كتبتُ هذا المقال لتعريف كلٍّ من الصراحة والنصح، والفرق بينهما. نتناول أولًا مفهوم الصراحة: وهي الميل إلى قول الحقيقة كما هي، ورؤية الأمور على طبيعتها، بعيدًا عن المبالغة والتزييف، ويتحقق ذلك بذكر مميزات الشخص وعيوبه أيضًا فهي تحتاج إلى جرأة وصدق وإخلاص في التعامل بها. وضدُّ الصراحة المجاملة وهي التملُّق والتكلُّف الدائم لبعض الأشخاص بغرض التودُّد إليهم لأجل أغراض شخصية، فالصراحة محمودة والمجاملات الزائفة لا شك مذمومة. والمصارحة تكون بين الأهل والأحبة والأصدقاء والزملاء، فهي من واجبات العشرة بالمعروف. والصراحة نوعان: النوع الأول: ما يَحمل معنى النقد وفيه تحامُلٌ على الشخص، فتكون قاسيةً ومؤلمة كأن تشير إلى نقطة حساسة يخفيها هذا الفرد مثلًا ولا يريد أن يكشفها له أحد، وهنا يحقُّ له أن يتألم ويُدافع عن نفسه بطُرُقه الخاصة. النوع الثاني: تكون فيه المصارحة بغرض ودِّيٍّ فيه الرفق واللين، كتعريف الشخص بخطأ يرتكبه دون قصد، أو لفت نظره لتصرُّفٍ غير مناسب أو غير لائق، أو قد تكون المصارحة بغرض تعريفه بنظرة الناس لسلوكه وتنبيهه لتصحيح تصرُّفٍ ما ينتقده الآخرون عليه؛ فالمصارحة هنا من باب الإخلاص لهذا الشخص وليس من باب التجريح كالنوع الأول. وهذا النوع من الصراحة أحبه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين قال: ((رحم اللَّه امرأ أهدَى إليَّ عيوبي)). وقيل لبعض الصالحين - وقد اعتزل الناس وكان منطويًا عنهم-: لِمَ امتنعتَ عن المخالطة؟ فقال: وماذا أصنع بأقوامٍ يُخفُون عني عيوبي. فيجب على كل مسلم أن يرحِّب بصراحة المقربين منه ويحب ذلك لأنه أنفع الطرق لإصلاح نفسه وتصحيح أخطائه ومعرفة عيوبه ومعالجتها. نأتي إلى مفهوم المناصحة: فالنصيحة في أبسط تعريفاتها هي: محبة الخير للمنصوح بفعل ما ينفعه وترك ما يضره. وشأنها عظيم في الإسلام فقد عدَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين بقوله: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قلنا: لِمَن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم". رواه مسلم. فالتناصح والمراجعة فيما بين أفراد المجتمع تدلُّ على سلامة هذا المجتمع وقوة بنائه بين المجتمعات الفاضلة، والنصح أيسر الطرق لبناء الأمة وفلاحها ونجاحها، وعامل أساسي من عوامل التطوُّر والتقدُّم؛ فبالنصح نتفادى السلبيات والإخفاقات، ونُحسِّن من أنفسنا ونرتقي بسلوكنا وأخلاقنا وبالتالي يكون التقدم والنجاح حليفَنَا دائمًا، طالما انتشر النصح بيننا وتقبَّلْنا النصيحةَ بصدر رحب. وللنصيحة آداب عامة ينبغي أن يتحلى بها الناصح، منها: - أن يكون دافعه في النصيحة محبة الخير لأخيه المسلم، وكراهة أن يصيبه الشر، قال ابن رجب رحمه الله: " وأما النصيحة للمسلمين: فان يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم. - أن يكون مخلصا فيها، يبتغي بها وجه الله، فلا يريد بها إظهار العلو والارتفاع على أخيه. - ان تكون تلك النصيحة خالية من الغش والخيانة، قال الشيخ ابن باز رحمه الله:" النصح هو الإخلاص في الشيء وعدم الغش والخيانة فيه. فالمسلم لعظم ولايته لأخيه ومحبته لأخيه: ينصح له ويوجهه إلى كل ما ينفعه، ويراه خالصا لا شائبة فيه ولا غش فيه. - أن تكون النصيحة بروح الاخوة والمودة، لا تعنيف فيها ولا تشديد، وقد قال الله تعالى: ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) النحل/ 125. - أن تكون في السر، فلا يجهر بها أمام الناس إلا للمصلحة الراجحة. قال ابن رجب رحمه الله: " كان السَّلفُ إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ، وعظوه سراً، حتّى قال بعضهم: مَنْ وعظ أخاه فيما بينه وبينَه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنَّما وبخه. وقال الفضيل: المؤمن يَسْتُرُ ويَنْصَحُ، والفاجرُ يهتك ويُعيِّرُ" انتهى من "جامع العلوم والحكم" (1/ 236). وقال ابن حزم رحمه الله: " إِذا نصحت فانصح سرا لَا جَهرا، وبتعريض لَا تَصْرِيح، إِلَّا أَن لَا يفهم المنصوح تعريضك، فَلَا بُد من التَّصْرِيح.... فَإِن تعديت هَذِه الْوُجُوه فَأَنت ظَالِم لَا نَاصح " انتهى من "الأخلاق والسير" (ص 45). - أن يختار الناصح أحسن العبارات، ويتلطف بالمنصوح، ويلين له القول. - أن يصبر الناصح على ما قد يلحقه من أذى بسبب نصحه. - كتمان السر، وستر المسلم، وعدم التعرض لعرضه، فالناصح رفيق شفيق محب للخير راغب في الستر. - أن يتحرى ويتثبت قبل النصيحة، ولا يأخذ بالظن، حتى لا يتهم أخاه بما ليس فيه. - أن يختار الوقت المناسب للنصيحة، واختيار الشخص المناسب للنصيحة، والمكان المناسب. فلنحرص جميعًا على ملازمة الأصدقاء مَن كان منهم مخلصًا صريحًا بعيدًا عن المجاملة يُهدي إلينا عيوبَنَا ولا يزيد فيها ولا ينقص، وليس له في ذلك غرض إلا النصح لله ومحبة الخير لإخوانه. اللهم ارزقنا صُحبةَ الصالحين من أهل النصح، وألهمنا رُشْدَنا، وبَصِّرنا بعيوبنا، وأشغلنا بإصلاح أنفسنا، ووفِّقنا لنُصح الآخرين من حولنا، وبارك اللهم فيمن يُهدي إلينا العيوب لنهذب النفوس لترقَى إلى رضوانك وجناتك يا رب العالمين. [email protected]