17 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ إطلالة روائعه المبكرة قبل الإسلام، لم يكن الشعر العربي حكرا على من نسميهم الآن النخبة أو الصفوة، فقد كان الشاعر مصدر فخر للقبيلة التي ينتمي إليها، تماما مثلما تتباهى هذه القبيلة بالفارس الذي يدافع عنها ويحميها من غارات سواها عليها، ولم يفقد هذا الشعر الأصيل والجميل مكانته الاجتماعية إلا خلال عصور التردي والانحطاط أثناء هيمنة المماليك والعثمانيين، وحين انطلقت النهضة الأدبية الحديثة عاد الشعر إلى سابق عهده وعادت له مكانته الرفيعة على أيدي البارودي وأحمد شوقي وغيرهما من رواد تجديد الروح وضخ دماء جديدة قي الشكل العمودي المتوارث، ثم انطلقت تيارات التجديد بصورها وأنماطها المتنوعة عبر مدرسة الديوان وجماعتي المهجر وأبولو. شغلت القضايا الجماعية العامة حيزا كبيرا من اهتمام رواد النهضة الأدبية الحديثة، فعلى سبيل المثال تصدى أمير الشعراء أحمد شوقي لصراعات الأحزاب السياسية في زمانه، ورأى أنها صراعات عقيمة، ليس فيها منتصر أو مهزوم، فالكل في حالة خسران مبين: إلام الخلف بينكمو إلاما وهذي الضجة الكبرى علاما؟ وفيم يكيد بعضكم لبعض وتبدون العداوة والخصاما؟ كما تحدث شاعر القطرين خليل مطران عن الشعوب التي تستكين وتستسلم أمام ما تواجهه من ظلم واضطهاد دون أن تسعى للتغيير الذي يزيح عنها ما تنوء به، ورأى أن هذه الشعوب هي التي تطيل أعمار الطغاة، وهي التي تصنعهم نتيجة السكوت على المذلة والهوان: كل قوم خالقو نيرونهم قيصر قيل له أم قيل كسرى وهذا ما يفسر لنا سر اهتمام الجرائد اليومية وقتها بنشر تلك القصائد وسواها في صدر صفحاتها الأولى، وإذا كان الشعراء الرومانسيون قد اهتموا بما يشغلهم من قضايا ذاتية، فإن الشعر الحر على أيدي رواده الكبار قد حرص على أن يمزج بين ما هو عام جماعي وما هو خاص وذاتي، ويكفي أن نتذكر هنا كيف مزج بدر شاكر السياب بين عشقه للحبيبة واشتياقه للوطن عندما كان بعيدا عنه دون إرادته، حيث يقول في رائعته غريب على الخليج: لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء الملتقى بك والعراق على يديّ هو اللقاء شوق يخض دمي إليه كأن كل دمي اشتهاء جوع إليه كجوع كل دم الغريق إلى الهواء... ظلت جسور التلاقي قوية ووطيدة بين شعرائنا العرب والجمهور المتذوق للشعر، إلى أن أطلت ما يسمونها– قصيدة النثر– وأطل معها الغموض الكثيف الذي جعل كتابات كثيرين ممن يكتبونها تبدو مثل الفوازير والألغاز، وقد تصور هؤلاء أن التعالي على الواقع والاغتراب المتعمد عن الروح العربية يتيح لهم أن يصبحوا شعراء عالميين مشهورين، فصار الواحد منهم يتباهى بأنه مدعو للمشاركة في مؤتمر للشعر العالمي في هولندا أو في أستراليا أو حتى في كوكب المريخ، ولكنهم حين يعقدون أو ينظمون أمسيات شعرية في أية دولة عربية يكتشفون دون أن يشعروا بالخجل والحرج أن القاعات خالية إلا من بعض أصدقائهم الذين حضروا للمجاملة أو للتسلي، وقد يتبجح بعض هؤلاء قائلين إنهم لا يكتبون للجمهور الجاهل والساذج بل يكتبون للنخبة وللصفوة، ويرى آخرون منهم أنهم يكتبون للأجيال القادمة، لأنهم شعراء خالدون وعظماء لكن الناس الجهلاء في زمانهم لا يفهمونهم! طالما أن هؤلاء الذين يكتبون لا يحسنون قراءة روائع الشعر العربي، وطالما أنهم يخطئون في قواعد الإملاء بدعوى أنهم يريدون أن يبتكروا لغة جديدة لم يسبقهم أحد لاختراعها، وطالما أنهم يتباهون بأنهم بعيدون كل البعد عن قضايا أرضهم العربية في مختلف الميادين والمجالات، فإن ظاهرة انهيار الجسور بينهم وبين الجمهور ستظل قائمة وقاتمة، ملقية بظلالها الخاوية على الساحة الأدبية في كل دولة عربية، وإذا كان هؤلاء قد نجحوا في شيء فإنهم نجحوا في تذكيرنا بعصور التردي والانحطاط أيام المماليك والعثمانيين!