10 سبتمبر 2025
تسجيلبدأ الحديث عن نهاية الاستشراق واندثاره في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين الذي عُقِد في باريس عام 1973م. في هذا المؤتمر، أعرب المستشرقون عن امتعاضهم من التسمية «الاستشراق»؛ لأنها تعني اتهامهم بأنهم أدوات وخدم للاستعمار بدلاً من باحثين مستقلين ومتخصصين. كما أظهروا أن التصريح بالاستشراق لم يعد مبررًا بعد انتهاء الاستعمار، وتراجع السرديات الاثنوغرافية الكلاسيكية المؤطرة في تصنيف الشعوب والثقافات. لذا، طالبوا بتغيير تسميتهم من «مستشرقين» إلى «خبراء في الدراسات الآسيوية وحضارات حوض البحر الأبيض المتوسط»، مما يضفي على أبحاثهم قدرا من الموضوعية والعلمية، بعيدًا عن اتهامهم بالتبعية للاستعمار والخضوع للنزعة الاستعلائية المركزية الغربية. لقد كشفت الحرب على قطاع غزة عن تهافت مقولة «نهاية الاستشراق»، إذ لا يزال التوجه الاستشراقي سائداً ومؤثراً. ويظهر الموقف الغربي ازدواجية صارخة في المعايير، بين الاستجابة السريعة والفعالة للأزمات التي تطال دولا غربية أو شركاءها، مثل الأزمة الأوكرانية، وإهمال أو عدم تقديم المساعدة لأهل غزة، رغم الظروف الصعبة والأزمة الإنسانية القاسية هناك، والتي تعتبر من أكثر الأزمات دموية في التاريخ الحديث. هذا التباين دفع طلاب الجامعات الغربية إلى التظاهر بأعداد كبيرة، للتعبير عن احتجاجهم على هذه السياسات المزدوجة والمعايير المتباينة في التعامل مع الأزمات الإنسانية. تنعكس المعايير الغربية المزدوجة في الاستشراق الكامن الذي لا يزال مؤثرًا للغاية. فقد أصدر بعض الفلاسفة والمؤرخين الألمان البارزين، بما في ذلك الفيلسوف الألماني الأول «يورغن هابرماس»، الذين طالما تشدقوا بالقيم الإنسانية الكونية، بياناً يكشفون فيه عن عوارهم الأخلاقي فيما يتعلق بغزة. وينطوي هذا البيان على نظرة الدونية للمدنيين الفلسطينيين في غزة، الذين يواجهون الموت والدمار، مما يعكس الانتقاص في منحهم الكرامة الإنسانية الكافية. والشيء من مأتاه لا يُستغرب؛ فهؤلاء وأمثالهم ما زالت المقولات الاستشراقية الكامنة تحكم مسارهم، ولا يستثنى الاستشراق الألماني من ذلك، على الرغم مما يشاع عن تميزه عن بقية المدارس الاستشراقية، بغلبة المنهج العلمي على أبحاثه، والتي تتسم غالبا بالموضوعية. وقد جرده المستشرق الألماني الشهير «برث رودي» في تقييمه للاستشراق الألماني من ميزة الموضوعية المطلقة، إذ اعتبر أن المستشرقين الألمان منذ زمن «تيودور نولدكه» لم يكونوا مستقلين في مواقفهم، وكانوا كرفاقهم من المستشرقين من الدول الأخرى. لقد أصبح الاستشراق قضية عالمية تخضع لإستراتيجية محددة، توجه الدراسات الاستشراقية لخدمة الأهداف المرسومة، ولهذا السبب يرى «بارت رودي» أنه من التعسف في الموضوع أن يظن المرء أن في إمكان أحد أن يتناول جهود الألمان على أنها مطلقة، وأن يفصلها عن الأوشاج والأربطة الإمبريالية العالمية. ومما تقدم؛ يتبين بأنه ليس صحيحا، أنه مع انتهاء الاستعمار العسكري للبلدان الشرقية خفت موجة الدراسات الاستشراقية، لانتفاء وظيفتها، باعتبارها أنها كانت أداة فاعلة عوَّل عليها الاستعمار في تحقيق أغراضه. والحقيقة أن ظاهرة الاستشراق لم تنته بانقضاء الاستعمار العسكري بل غيرت مواقعها فقط، وأنها تظل كامنة متخفية وتظهر بحسب الحاجة وتحقيق المطلوب. ومن ثم، يمكن القول، إن الاستشراق لم يكن نظاما أكاديميا صرفا في عمومه، بل هو في أغلبه أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، وامتلاك السيطرة عليه بتعبير «إدوارد سعيد»، ويؤكد ذلك «بارت رودي» في قوله: لا يعيش المستشرقون في الفراغ، شأنهم في ذلك شأن الأفرع الأخرى في الدراسات، وإنما يعيشون في خدمة المجتمع الذي ينتمون إليه، والذي يمولهم ويشجعهم.