01 نوفمبر 2025
تسجيلنظام "بريتون وودز" هو مجموعة المؤسسات النقدية والاقتصادية التي أنشأها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية – الولايات المتحدة والدول الغربية خصوصا – من أجل الهيمنة على العالم. ولذلك تعتبر هي الفرع الاقتصادي لمؤسسات الهيمنة السياسية التي نشأت في ذلك الوقت وهي الأمم المتحدة وهيئاتها ووكالاتها.وقد بدأ هذا النظام بعد مبادرة الحكومة الأمريكية إلى دعوة 44 دولة اجتمعت في يوليو عام 1944 في مدينة "بريتون وودز" بولاية نيو هامشير للاتفاق على نظام نقدي دولي جديد.وكان الهدف المعلن آنذاك، إيجاد نوع من الثبات في السياسات النقدية وأسعار الصرف بين دول العالم عبر وضع البنية التحتية لتنقل رؤوس الأموال بين الدول كأساس لتسهيل التجارة العالمية، وخرجت حينها وبعدها المؤسسات الدولية: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة "جات".ورغم مشاركة الاتحاد السوفيتي في أعمال المؤتمر ومناقشاته، فإنه لم ينضم إلى عضوية صندوق النقد الدولي، لأنه رأى فيه هيمنة واضحة للاقتصاد الأمريكي على النظام المقترح. وخلال أكثر من نصف قرن من عمل هذه المؤسسات، كان الهدف الأساسي لها هو تكبيل الدول النامية بإجراءات تؤدي إلى هشاشة سياسية واقتصادية تساعد على استمرار تبعية تلك الدول للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.ورغم علم حكومات الدول النامية بأهداف هذه المؤسسات، إلا أنها سعت إلى تنفيذ برامجها المشبوهة في ظل الضغوط الأمريكية، التي تزايدت بشكل كبير بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتربع الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي.لكن بعض الدول بدأت محاولات لمواجهة هذه المخططات من أجل منع هيمنة الولايات المتحدة وحلفاءها على قرارها السياسي والاقتصادي. وكانت أبرز هذه الدول الأرجنتين التي عانت من أزمة اقتصادية طاحنة في تلك الفترة بسبب تدخلات مؤسسات "بريتون وودز" استمرت لست سنوات حتى العام 2002، الذي شهد انهيارا اقتصاديا كاملا، حيث بلغت نسبة البطالة %25 من إجمالي السكان، وارتفعت أسعار السلع بمعدل 40%، ونسبة فقر اقتربت من 45%. وهو ما ترتب عليه قلاقل سياسية أدت إلى تغيير أربعة رؤساء في أقل من سنتين. إلى أن تم انتخاب الرئيس نيستور كيرشنير في عام 2002.وهنا بدأت تجربة فريدة في مواجهة مؤسسات "بريتون وودز"، حينما رفض كيرشنير برنامج صندوق النقد الدولي الذي كان يهدف أساسا إلى ضمان تسديد الديون الخارجية وحماية البنوك الداخلية دون الاهتمام بتنمية اقتصادية حقيقية، وبالتالي استمرار معاناة المواطن الأرجنتيني. فأعلنت الأرجنتين عن التوقف عن سداد الديون الخارجية، وكذلك التوقف عن تقديم أي دعم للبنوك الداخلية أو تسديد الديون المستحقة لها على الدولة. كما قامت بوضع برنامج يقوم على الموائمة بين متطلبات نمو الاقتصاد والآثار الاجتماعية المترتبة على ذلك. فقامت بتخفيض الرواتب الحكومية بقيمة 13%، في مقابل الإعلان عن تخصيص استثمارات عاجلة بقيمة 8.2 مليار دولار لتوفير فرص عمل مباشرة. كما قامت بتخفيض عملتها "البيزو" أمام الدولار، مقابل تنفيذ برنامج يهدف لتحسين معيشة 60% من إجمالي السكان. أيضا قامت بتغيير هيكل الضرائب وتقليل الإنفاق على البنية التحتية، مقابل تنفيذ خطة إصلاح شاملة لقطاعي التعليم والصحة.واستطاعت بعد مرور ثماني سنوات فقط أن تصبح ثالث أقوى اقتصاد في أمريكا الجنوبية، وعضوا قويا ومهما في تكتل إقليمي للتجارة يجمع البرازيل والأوروجواي وباراجواي، ومعدل نمو حقيقي 8%، وارتفع الناتج المحلي الإجمالي إلى 146 مليار دولار، وارتفعت صادراتها إلى 30 مليار دولار مقابل 13 ملياراً فقط قيمة ما تستورده.هذا النموذج الأرجنتيني تحاول اليونان أن تستلهمه الآن، في ظل رفض حكومي وشعبي لخطة الإنقاذ التي وضعها صندوق النقد والمؤسسات المالية في الاتحاد الأوروبي. حيث تحاول اليونان أن تبتعد عن الوصاية الدولية والأوروبية التي تستهدف السيطرة على القرارين السياسي والاقتصادي اليوناني، في ظل اعتبار اليونان مجرد جزء من درع متقدمة يحمي الولايات المتحدة وأوروبا الغربية من التهديد الروسي والصيني، تماما كما كان الأمر خلال الحرب الباردة.إن تلك المحاولات التي تستهدف مواجهة مؤسسات "بريتون وودز" لهي محاولات جديرة بالإتباع من باقي دول العالم النامي من أجل الخروج من جحيم الهيمنة الأمريكية الغربية، والحصول على استقلال قرارها الوطني، والدفع باتجاه إيجاد نظام دولي أكثر عدلا في ظل منظمات دولية تعبر عن مصالح كافة دول العالم وليس الأقوياء فقط.