03 نوفمبر 2025
تسجيلأمّا خُلُق الكذب، فهو أكثر خصال النفاق شيوعاً بين الناس، حتى لقد صار لهم عادةً من العادات الجارية على ألسنتهم، واستساغوه حتى باتوا لا يبالون أو لا يشعرون بما يأتون منه، وهذا والله لمن أسوأ المصائب وأشدها؛ لأن مسألة الكذب والصدق، متعلقة بإيمان المرء، قال الله تعالى:( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله)، وحينما سئل رسول الله عليه الصلاة والسلام، أيكون المؤمن كذّاباً؟ قال: لا، وروي عن أبي بكر الصديق، موقوفاً ومرفوعاً، قوله:(إياكم والكذب، فإن الكذب مجانبٌ للإيمان).إذن فالكذب ليس من خلال المؤمن بحالٍ من الأحوال، ولا يتصور أن يصدر منه، ولا أيضاً خلة الخيانة، قال عليه الصلاة والسلام:(يُطبع المؤمن على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب)، ولا غرو أن يجمع رسول الله، بين هاتين الخصلتين في الحديث، الكذب والخيانة، فالجامعة بينهما وثيقةٌ جداً، جاء في الحديث الصحيح:(كبرت خيانةً، أن تحدث أخاك حديثاً، هو لك مصدقٌ، وأنت له كاذب)، فيستفاد من هذا الحديث، أن الكذب صورة من صور الخيانة، بل يعد خيانة كبيرة لا يستهان بها، لقوله عليه الصلاة والسلام:( كبرت خيانةً)، وجزاء صاحب الخيانة، جاء في هذا الحديث الشريف:(المكر والخديعة والخيانة في النار).وأذكر هنا مقولة للتابعيّ معروف الكَرخي، وهي قوله:(ما أكثرَ الصالحين، وما أقل الصادقين)، وقول تابعي آخر هو رفيع أبو العالية، يخاطب أهل زمانه، أهل القرن الثاني، وفي قوله تعبير بليغ عن الحالة المؤسفة لكثيرٍ من الناس، وفيه كل العظة والعبرة لهم، إذ قال:(أنتم أكثر صلاةً وصياماً ممن كان قبلكم، ولكنّ الكذبَ قد جرى على ألسنتكم)، فماذا يقال في أهل زماننا هذا، المقصّرين المفرّطين، بالنسبة إلى ما كان عليه أولئك، في ذلك العصر؟ أظن أنْ ليس أحدٌ يجادل أو يمتري بأننا أقل صلاةً وصياماً منهم، وأن الكذب لا أقول بأنه يجري على ألسنتنا، بل إنه قد طُبع عليها وغدت به رَطِبة، والله المستعان.مع أن الإسلام حذّر من الكذب، ونفّر منه، ونعى على الكاذبين، وأزرى عليهم كذبهم، حتى استحقوا به لعنة الله، قال تعالى:(ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)، كما نهى عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال:(إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجورَ يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذبَ، حتى يكتب عند الله كذّابا).وفي هذا بيان لشدة حرمته، وسوء عاقبته، لدرجة أنه عليه الصلاة والسلام، نهى عنه، ولو كان في التعامل مع الأطفال، وعده محسوباً من الكذب، الذي يكتب على العبد، وإن ظن هو أنه من باب اللهو واللعب مع الصغير، أو فَعَله من أجل إسكاته والتخلص منه، وحسب أنه لا يُكتَب عليه، وانظر الحديث التالي: عن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله قاعدٌ في بيتنا، فقالت تعالَ أُعطِك، فقال لها عليه الصلاة والسلام:( ما أردتِ أن تعطينه؟) قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال لها:( أمَا إنّك لو لم تعطِه شيئاً، كتبت عليك كذبة!). وأكدّ على هذا في حديث آخر فقال عليه الصلاة والسلام:(من قال لصبيٍّ: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة)، فكيف يكون الحال مع من يكذب قاصداً متعمداً ، فيترتب على كذبه، فساد وضرر، وتغرير ومكر، وعواقب وخيمة، تبلغ الآفاق؟ّ!.فالإسلام يريد أن يقطع دابر الكذب، ويستأصل بذوره من نفس المسلم؛ لكيلا يتجذَّرَ فيها، فيعتاد عليه ويرتاض، ويريد أن يتربى الصغار على فضيلة الصدق المحمودة، فيشبون عليه، كما يشبون على الرِّضاع، وتكون تنشئتهم سليمةً من رجس الكذب ودناءته المذمومة، حتى يصيرَ الصدق عندهم قيمة مقدسة، يحرصون عليه، ولا يدعونه بحال.