01 نوفمبر 2025

تسجيل

ليلة الحصاد

14 يونيو 2018

منذ أيام قلائل كنَّا نستقبل رمضان ويهنئ بَعضُنَا بعضا بقدومه، وها هو اليوم يمر وينقضي سريعًا، ما كدنا نستقبله حتى ودعناه، والحمد لله على كل حال. جاءت ليلة الحصاد لمن زرع وسقَى وتعهَّد نباته بالرعاية والحماية.   جاء وقت حصاد شهر كامل من الطاعات والعبادات ليرى كلّ منا كم حصد؟ وكم وُفِّق ورزق من خير في رمضان؟  فهنيئًا لمن أحسن الزرعَ حتى اشتدَّ عود نباته وأثمر وحصد وفرح بثمرة جهده وصبره على الطاعة.  وَيَا أسفنا على المُقصِّر الذي أهمل زرعَه فعطش وذبُل ومات ولم يُثمر. العابدون يعدون حصادهم الآن... كم ختمة أتمُّوها؟ وكم صدقة أخرجوها؟ وكم ركعة صلوها؟ وكم من خير قدموه في هذا الشهر الكريم؟ لقد رزقهم الله في رمضانهم ثمراتٍ عظيمةً ودروسًا كثيرة تعلَّموها وغيرت كثيرًا في نمط حياتهم. ولا شك أن لرمضان ثمراتٍ يُحسُّها كل مسلم، من أهمها: ١- استشعار الحاجة إلى التغيير: بمقارنة سريعة بين حالك قبل رمضان وحالك في رمضان، وأيهما أفضل، لا بد أن تخرج بنتيجة ألا هي: التغيير والحاجة الشديدة إليه، بل والقدرة عليه، فلربما كان البعض يقصر في المحافظة على صلاة الفجر، ويتكاسل عن بعض النوافل والأوراد فكان في رمضان الأمر مختلفًا، وظهرت صور من التنافس في الخيرات وعلو الهمة، كلها تؤكد أننا قادرون على التغيير، وأن المسلمين يمكنهم العودة مرة أخرى، وتغيير العالم من حولهم بهذه الرسالة الخاتمة الصالحة لكل زمان ومكان.  ٢- تعميق معاني الولاء والبراء والتركيز عليها، وقد ظهرت هذه المعاني جلية في رمضان إذ لا يصوم غير المسلمين، لا يشاركنا أحد في صيام، أو قيام، أو تلاوة، أو اعتمار، بل يختص بذلك كله المسلمون، وهذه الترجمة العملية ربما تربو على الكثير من الدروس النظرية لو وعاها كل مسلم.  يقول الله عزَّ وجلَّ: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" [المائدة:55].  فانظر كيف وصفت الآية هؤلاء وبِمَ وصفتهم؟ إنها وصفتهم بأداء هذه الشعائر، والحال كذلك في رمضان: نصوم وحدنا ونفطر وحدنا، ونعيِّد وحدنا، ليسوا منا ولسنا منهم "أي اليهود والنصارى وسائر الكفرة"، بل نحن أمة متميزة، لنا شأن، وللدنيا شأن آخر، بالإضافة إلى معاني التوحيد التي تُستَشَف من الصوم معًا والفطر معًا، والاجتماع على شعائر واحدة.  ٣- كلنا دعاة: وهذا درس في غاية الأهمية، وهو ضرورة أن يكون لك دور ومشاركة في الدعوة إلى الله تعالى، لتثبت على الطريق، وتحتفظ بثمار رمضان وحصاده، فحتى تحيا الحياة الإسلامية لا بد أن توجِد الواقعَ المُعِين على ذلك، كلنا قد أحس بذلك في رمضان من الاجتماع على الطاعة، مما يسر علينا فعلها، والتنافس فيها، وحتى تسهل عليك الطاعات بعد رمضان لا بد من إيجاد البيئة المُعِينة على ذلك، وهذا لا يكون بغير الدعوة إلى الله تعالى.  ٤- ومن الحصاد الرمضاني أيضًا وخاصة من ثمار الاعتكاف: ضرورة الترابط والتآخي، وإحياء معاني الحب في الله عزَّ وجلَّ، إذ يشعر المعتكِف بهذه المعاني، وبشدة الحاجة إليها بعد خروجه من معتكفه، وهذه المعاني يتوقف عليها الكثير من جوانب النجاح في حياتنا الدعوية خاصة، وحياتنا عامة، فليت هذا الدرس يُستصحب بعد رمضان لنحقق: "إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" [الحجرات:10]. لنحصِّل معنى الحديث الشريف: «وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ» [رواه أحمد، وصححه الألباني]. وما أكثر ما يقع ذلك في رمضان عامة والاعتكاف خاصة، ونِعم العُدة في هذا الزمان إخوان الصدق، ورفقة الإيمان، فاشدد يديك بهم، وعَضَّ على صُحبتهم بالنواجذ، فهم أعوان الخير. ٥- ومنها: أهمية التربية الأخلاقية، والتزكية، والتقويم للنفس البشرية، وهذه غاية العبادات كلها تقريبًا، وهي تطهير القلب والنفس. فعند ذكر نعمة الإسلام قال الله تعالى: "مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [المائدة:6]. وما أحوجنا طيلة السنة -وعلى مدار الأيام كلها- أن نستحضر هذه المعاني، والتي هي من أعظم أسباب دخول الجنة بعد التوحيد: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَن أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» وَسُئِلَ عَن أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ» [رواه الترمذي، وحسنه الألباني]. وهي كذلك من أعظم وسائل الدعوة: إذ "عمل الرجل التقي يؤثر في ألف رجل وأشد من قول ألف رجل لرجل: استقم. فالدعوة عمل لا قول، وكم من السلوكيات صَدَّت عن سبيل الله تعالى، وإلى الله المشتكى. يجب علينا الحرص على ثمار رمضان وأن نتعلم منها طوال العام. نسأل الله القبول والتوفيق والسداد.