02 نوفمبر 2025
تسجيلفي موسم من مواسم الحج في مكة، وافق السنة الثانية عشرة من البعثة النبوية، جاء اثنا عشر رجلاً من أهل يثرب يبتغون الدخول في دين الله الإسلام، فقصدوا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولاقَوْه عند العقبة بمنى، وأعلنوا له إسلامهم، وبسطوا إليه أيمانهم، فبايعهم رسول الله على ألا يشركوا بالله شيئا، والا يسرقوا والا يزنوا والا يقتلوا أولادهم، والا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، وعلى ألا يعصوا النبي في معروف، ولم يكن ضمن شروط البيعة الجهاد في سبيل الله، إذ كان لمّا يفرضْ بعد، لذلك سميت هذه البيعة ببيعة النساء. رأى رسول الله أن يبعث مع أولئك القوم من الأنصار، رجلا ليقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في دينهم، فوقع اختياره لهذه المهمة العظيمة الجليلة على مصعب بن عمير، رضي الله عنه، ليكون بهذا أول سفير في الإسلام، يحمل سِفارته إلى المدينة التي ستكون فيما بعد دار الهجرة، ويطلق عليها المدينة المنورة، التي اصطفاها القدر لتكون المنارة المشعة بالنور كالشمس ترسل أشعتها المضيئة مبددةً ظلام الأكوان، وباعثةً الأمل في النفوس، فتأخذ الحياة طريقها إلى الخير والسعادة والنماء. لقد اختير مصعب بن عمير من بين السابقين الأولين، وكُلف بهذا التكليف الشريف، وهو له جدير، ولا غرابة في هذا، فإنه الفتى الذي باع دنياه برخائها ونعيمها وجمالها، بدينه الذي آمن به، ولم يُغلِ شيئا مما يملك على العقيدة التي رأى الحق والصدق فيما تدعو إليه، لذلك لم يتلبث ويتردد في التخلي عن كل شيء دونها، إن كان يقف في سبيل بقائه عليها، وهو الذي كان أنضر وأعطر فتيان مكة وشبانها، يتمتع بظلال ودلال والديه، ثم رضي بعد ذلك من أجل الإسلام عما صار إليه من شدة وبؤس شديدين، بحيث يرتدي المرقّع البالي، ويطعَمُ اليابس القاسي، وما ذلك إلا من حبه لله ورسوله، فلا غَرْو إذن أن يكونَ سفيرا للإسلام من بعدُ، وينالَ حظوة القرب والرضا. بلغ مصعب يثرب ونزل فيها ضيفا على أسعد بن زرارة، ثم إنهما راحا معا يدعوان الناس إلى الله، حيثما نزلا من مجالس القوم وبيوتهم، هنالك شرع مصعب يعظ الناس ويدعوهم بحكمة وأناة وحلم إلى الإيمان بالله وحده، والتصديق برسالة نبيه محمد، مستعينا بتلاوة وترتيل ما في صدره من آيات مباركات من كتاب الله. كان مصعب مخلصا صابرا حكيما في دعوته، يدعو إلى الله بخلقه وتعامله قبل أن يدعو بلسانه ومقالته، لا يُكبِر جهدا، ولا يدخر وسعا، لذلك لقي من الناس قبولا واستجابة بحيث انفتحت له مغاليق القلوب، وصغت الآذان، فأخذ الإسلام من ثَم محله الفطري من نفوس الذين أحبوا دخوله. في ذات يوم خرج مصعب بن عمير ومعه أسعد بن زرارة، يريدان دار بني عبد الأشهل، فلما قدما محلاً من أرضهم، اتخذاه مجلسا لهما، فلم يلبثا إلا قليلا حتى اجتمع إليهما نفر ممن أسلم، وممن سمع بهما وأراد أن يخبر ما معهما من علم ونبأ، وكان بنو عبد الأشهل يومئذ يتزعمهما سيدان من أكرم فتيانهم هما سعد بن معاذ، وأسيد بن خضير، فلما نُمي إليهما خبر مصعب وصاحبه أسعد، وما يقومان به، رابهما ذلك وأقلقهما وظنا فيه سوءاً يكاد يحيق بقومهم، من حيث لا يشعرون، ولا سيما بعدما انتشرت قالة السوء من بعض المرجفين، فقال سعد بن معاذ، لأسيد بن خضير: (لا أبالك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدما). انتبه أسيد بن خضير هنا، واستشعر الخطر، فقام وامتشق حربته، وأخذ يمشي بخطى سريعة، تقرب إلى أن تكون عَدْواً، حتى أقبل عليهم في مجلسهم، وما إن شاهد القاعدون هيئته وصورته اللتين يبدو عليهما الغضب والحنق، حتى أوجسوا خيفة وجعلوا يتهامسون فقال أسعد لمصعب: هذا سيد قومه، قد جاءك فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلسْ أكلمْه. فوقف أسيد عليهما متشتما، وقال: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كان لكما في أنفسكما حاجة. فقال مصعب، بنبرة هادئة حانية: أوتجلس فتستمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته فكفّ عنك ما تكره. بهذا القول الحكيم البليغ تمثلت ردة فعل مصعب وظهرت فطنته، وأسفرت معالجته لما واجهه من موقف صعب وحرِج، أما أسيد بن خضير فقد كان سيدا حقا يستحق السيادة على قومه بما له من أخلاق كريمة، وصفات حميدة، جعلته يمتاز بكرم النفس، ورجاحة العقل، لذلك قال لمصعب: أنصفت. وكذلك هم العقلاء والحكماء يحتكمون إلى لغة العقل والمنطق وينقادون للحق، ويذعنون له، ويعترفون بالصواب ويقرون به، إذا عرفوه، وأي عقلٍ ومنطق أصح وأبلغ مما نطق به الداعية مصعب بن عمير. ثم رَكَز أسيد حربته وجلس، فحدثه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، وأسيد ينصت بخشوع واهتمام، حتى إنهم عرفوا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم من خلال إشراقه وتهلله، وقد صدق حدسهم، فلم يفرغ مصعب من حديثه حتى قال أسيد: ما أحسنَ هذا وأجملَه!! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال مصعب: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ولما فرغ قال لمصعب وأسعد: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه — يعني سعد بن معاذ — وسأرسله إليكما. مضى أسيد من عندهما وهو يفكر في حيلة يسوق بها سعداً إليهما حتى يسمع منهما، فرأى أن يقول له إن ابن خالته سعد بن زرارة على خطر من القوم يتهدده، فتثور حينئذ حمية سعد ونخوته على قريبه، فيسرع في نجدته، فلما قال له ذلك، قام سعد من فوره فزعا مغضبا، وأخذ حربته وأسرع إليه حيث كان، حتى بلغ مكانه، ولكنه نظر إلى ابن خالته فرآه مطمئنا ما به من بأس، فسرعان ما انتقل من حال إلى حال، ومن شعور إلى شعور، ووقف منهما نفس الموقف الذي وقفه من قبل أسيد بن خضير أول أمره، فقال له مصعب مثل ما قاله لأسيد، من لغة الحكمة والمنطق، فقبل منه سعد ذلك فجلس ورَكَز حربته وأنصت لما يقال، إذ كان رجلا عاقلا حكيما، قد ساد قومه كما أسلفنا هو مع ابن عشيرته أسيد بن خضير، وهو الذي لم يكن ليتخلفَّ عنه في فضل وخير، ثم انتهى الحديث بإسلام سعد على نحو ما أسلم أسيد.